عبد المجيد راشد
مازال محمد أفندى يجرى . . و يصيح دياب بأعلى نبرات صوته : اجرى يا محمد أفندى .. و يهرول محمد أفندى مسرعا بأقصى ما فى طاقة جسده بعد أن هربت روحه و مات ضميره و أنهزمت إرادته و إستسلم لمحمود بيه و للسلطة التى تقف وراءه مثلما إستسلم الشيخ حسونه لينجو بأرضه و ليذهب محمد أبو سويلم الى الجحيم ..
و مازال المحامى الكبير يرددها : و عاوزينى أكسبها .. و يجيب على سؤال المناضل السجين عن جدوى مرافعته رغم معرفته بالحكم مسبقا فيرد عليه : أهى تنفيسة .. جايز كلمة تأثر فى القاضى
و مازال سؤال الناصر صلاح الدين للقائد حسام مطروحا على مسامعنا : مرحبا بالقائد حسام .. كيف حالك .. كيف حال أهلنا فى أورشليم ؟و يردعليه : هم فى أسوء حال يا مولاى .
و يطل وجه جميلة بوحريد العنيد الصلب المقاوم ليعلم الأجيال معنى التضحية من أجل الوطن ، و معنى الدفاع عن استقلاله و حريته و عزته و كرامته .
و لكن محمد أبو سويلم و عبد الهادى يقفان لمحمد أفندىو الشيخ حسونة و لكل محمد أفندى و لكل شيخ مثل الشيخ حسونة بالمرصاد .. يقاومان ببسالة و لا يعترفان بالهزيمة .. و يؤمنان بالنصر و بتغيير الواقع المظلم الكئيب الموحش .. مازال عبد الهادى رافعا فأسه فى مواجهة الظلم و الإستبداد و التسلط و النفوذ و الاقطاع العائد .. يقاوم فى سراندو و بهوت و عزبة مرشاق و عزبة محرم .. و مازال محمد أبو سويلم متشبسا بالأرض ، يرويها بدمائه و يقف وقفه رجالة فى كل موقف ينتظر الرجال .
و مازلت جميلة بوحريد تسطر فى صفحاتنا أجمل كلمات التضحية من أجل الوطن و الأمة . و تنضم الى قافلة النور وفاء ادريس و دارين أبو عيشة و آيات الأخرس و من قبلها سناء محيدلى و لولا عبود و دلال المغربى .
و مازال سؤال الناصر صلاح الدين يسأله الناصر حسن نصر الله لتكتمل يوما الإجابة الحاسمة بعد بصيص النور الذى أضاء بعضا من ليل أمتنا المعتم .
يا الله .
رحل جسد يوسف شاهين مبدع سينما المقاومة الجسورة للواقع الظالم المظلم ..
رحل يوسف شاهين المعبر عن كل فئات مصر و طبقاتها و عن هويتها العربية و انتماءها القومى.. و الذى لم يترك شاردة و لا واردة فى حياتنا الا و حولها الى مشاهد ستظل تثير فينا الدهشة و تستنطق فينا كل المعانى التى تكمن فى أعماقنا .. حتى و إن استخدم فى بعضها مشرط الجراح الماهر ، و قذف فى وجوهنا بالحقائق المرة ، و بالواقع الأليم ، و سنعترف بيننا و بين أنفسنا بها ، حتى و أن ضحك منا البعض على نفسه و أنتقد بشدة طريقته فى اجراء الجراحة .
سينما يوسف شاهين متفردة و متميزة و ليس لها شبيه ، انها سينما العمق بإمتياز ، كما هى صحافة سيمور هرش صحافة العمق بإمتياز .. فهو يمنحك كل ما يمتلكه الفن السابع من أدوات ، يحرضك و يمتعك و يستفزك و يصدمك و يدهشك و يجيبك و يضعك فى خانة اليك ..
عبقرية يوسف شاهين تكمن فى بساطته و عمقه فى آن .. فى مباشرته و إيحاءه فى ذات الوقت ، فى تعبيره الدقيق عن العمق الى درجة الصدمة و الدهشة و الاستفزاز .
فى محطات قطاره السينمائى الكثير مما يتوقف عنده الجميع بلا استثناء . بدءا ممن تحمل ذاكرتهم مشاهد محفورة فى الوجدان و الروح و انتهاءا بمن يتدارسون سجله الحافل من بابا أمين الى هى فوضى ، مرورا بمن تلقوا رسالته التى بثها فى مجمل أعماله و التى جسدت معانى المقاومة و العروبة و الحرية و العدل و المساواة و تكافؤ الفرص و العزة و الكرامة و الارادة و الوعى .
و ستظل قيمة يوسف شاهين الجوهرية فى تغريده الدائم خارج السرب .. و امتلاكه جسارة المحارب و فدائية المقاوم و فروسية المناضل و خيال المبدع و أفق المهموم المتسع و حضن العاشق الممتد من أول حدود جغرافيا هويته الى آخرها و ما أجمل أن يغرد المرء منا خارج السرب محرضا و مقاوما وطليعيا و دافعا للسرب الى الأمام .