فى عدد مجلة(الكواكب)9 أبريل 1996 كتب رئيس التحرير/رجاء النقاش00(من المصادفات الغريبة أن تحل الذكرى التاسعة عشر لعبد الحليم حافظ فتحمل الينا عاصفة من الهجوم عليه و البحث عن أسباب تبرر الانتقام منه بسبب بعض مواقفه الفنية القديمة التى يرى المهاجمون له أنها تستحق العقاب و الأسباب القائمة وراء هذه الحملة هى أن عبد الحليم كان يغنى لعبد الناصر من البداية للنهاية و لم تصل الحملة حتى الان الى حد القول بأن عبد الحليم كان مسئولا عن نكسة 1967 لأنه أعطى للناس فى أغانيه أحلاما وردية عن القوة و الانتصار ثم جاء الواقع يحمل اليهم النكسة و الهزيمة فعبد الحليم بهذا المنطق مسئول لأنه وعدنا فى أغانيه الوطنية بالسعادة فلم نجد الا الحزن و الشقاء0000و هذا كله كلام مردود عليه تماما و الحمد لله أن الذوق العام فى مصر لا يتأثر كثيرا بالأفكار التى لا تقوم على دليل قوى و برهان ثابت و لذلك فان الذوق العام فى مصر مازال يضع عبد الحليم فى المكانة الأولى بين المطربين و يتعامل مع عبد الحليم حتى اليوم كما كان يتعامل معه فى عز شبابه و قمة نجاحه و نضجه الفنى 0كل ذلك رغم أن هناك أجيالا جديدة ظهرت بعد رحيل عبد الحليم و الذين ولدوا يوم وفاته هم الان على أبواب سن العشرين و هم جمهور عبد الحليم الجديد المحب له و المتحمس لصوته و فنه الجميل و هذا الجيل لم يعش فى عصر عبد الناصر بل عاش فى عصر كان هواه ضد عبد الناصر و هو السبعينات و فى فترة حكم السادات بالذات لأن الرئيس مبارك لا يحمل لعبد الناصر أو لغيره من زعماء مصر الوطنيين الا الاحترام و التقدير و مبارك بعيد كل البعد عن القصد و التعمد للاساءة الى عبد الناصر أو غيره فمبارك زعيم عادل و منصف و يحب أن تعطى الحق لأصحابه و لكن الجيل الذى ولد فى السبعينات عاش فى أجواء أخرى تبحث عن سلبيات عبد الناصر و تخفى ايجابياته و تظهره كما لو أنه لم يقدم الى مصر سوى الخسائر و النكسات و مع ذلك فان هذا الجيل الجديد الذى ولد فى السبعينات هو من عشاق عبد الحليم الان و هو الذى يتحمس له و يضع صورته حية أمام الذاكرة و يجعل منه المطرب الأول اليوم اذا أخذنا بمقاييس توزيع الأشرطة الغنائية و ما تقدمه من أرقام صحيحة 000و هكذا فقد استطاع الذوق الفنى العام فى مصر أن يدرك أن عبد الحليم لم يكن يغنى لعبد الناصر و انما كان يغنى لمصر فاذا كان عبد الحليم يغنى للسد العالى مثلا فالسد العالى هو من انشاء مئات الالاف من العمال و المهندسين المصريين الذين لم يقبلوا أن يكون هذا السد العظيم عملا تقوم به الخبرة الأجنبية وحدها فشارك المصريون بدمهم و عرقهم فى اقامة هذا المشروع الجبار و أقول(دمهم)لأن من الثابت أن الكثيرين من العاملين المصريين قد(استشهدوا)أثناء العمل فى هذا المشروع اما بضربات الشمس أو بسقوط الأحجار فوق رؤوسهم فهم شهداء للوطن دفعوا دمهم من أجل اقامة هذا السد العظيم 0عندما يغنى عبد الحليم للسد العالى فهو يغنى لهؤلاء أى أنه كان يغنى للملايين من أبناء الشعب الذين أقاموا السد و الذين انتفعوا به و مازالوا ينتفعون به الى الان و هذا الكلام ينطبق على كل أغانى عبد الحليم الوطنية فقد كان هذا الفنان الحساس يغنى للناس قبل أن يغنى لحاكم أو زعيم و لذلك لا أحد يصدق هذا الاتهام الطريف و السخيف فى الوقت نفسه و هو أن عبد الحليم كان مجرد(عميل غنائى)لمخابرات عبد الناصر تأمره بالغناء فيغنى و تأمره بالصمت فيصمت هذا كلام مضحك فقد كان عبد الحليم يغنى بصوت جميل و كان يغنى بصدق و كان يغنى من أعماق قلبه و هذه كلها أشياء لا يمكن أن تتحكم فيها أقوى مخابرات الدنياو فأحزان القلب و أشجانه و تغريد البلابل و العصافير و جمال الورود و الأشجار كل هذه الأشياء هى (قوة)كبرى من قوى الحرية فى هذه الدنيا لا يستطيع أحد أن يتحكم فيها أو يفرض بالأمر أن تكون جميلة و أن تغنى و تحب و تقدم كل ما فى قلبها من عواطف و مشاعر أنت تستطيع اذا كنت قويا أن تتحكم فى لقمة خبزى و لكنك لا تستطيع ابدا أن تتحكم فى ألحانى و فى الأغانى التى أغنيها للحبيب البعيد و الحبيب القريب 000و قد كان عبد الحليم بلبلا يغنى فى حديقة(الحرية)و هى حديقة الشعب المفتوحة و دخولها ليس له تذاكر أو رسوم كان يغنى للجالسين على الحشائش و السائرين فى (العصارى)على نهر النيل و الصبيان و البنات الذين يتبادلون كلمات الحب و يتغذون بالأحلام فى مستقبل سعيد و لا يملكون شيئا فى دنياهم سوى التفاؤل و الاصرار على السعادة مهما كانت الظروف و عصر عبد الناصر لم يكن ملكا لعبد الناصر و شعب مصر لم يكن (موروثا)لعبد الناصر من أحد بل كان عبد الناصر زعيما محبوبا أخطأ و أصاب و اجتهد فنجح و اجتهد مرة أخرى فلم يصبه النجاح و عصر عبد الناصر كان الذين صنعوا أمجاده هم الشهداء الذين حاربوا الانجليز فى قناة السويس و شهداء عدوان 1956 و شهداء اليمن و شهداء 1967 و حرب الاستنزاف و عصر عبد الناصر هو:الضباط و الجنود و الأطباء و المهندسون و العمال الفنيون و الأدباء و الفنانون الذين رسموا لوحة النهضة فى هذا العصر فلماذا تنسبون عصرا كاملا لشخص واحد هو عبد الناصر و لماذا لا تنسبون عبد الناصر نفسه الى هذا العصر برجاله و نسائه الذين بذلوا أعظم الجهد لتحرير مصر من ظروف قديمة قاسية و خانقة؟و لأبناء هذا العصر كان عبد الحليم يغنى و لذلك جاء غناؤه صادقا و جميلا و سوف يبقى هذا الغناء ليتجدد حب الناس له من جيل الى جيل لأن عبد الحليم كان يغنى لمصر لا لعبد الناصر 00000(ملحوظة:هناك كتاب مهم لأستاذنا الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل اسمه (لمصر لا لعبد الناصر)و من هذا العنوان أخذت عنوانى مقالى لأننى لم أجد أفضل منه فى التعبير عن فكرتى 00فمعذرة للأستاذ الذى منه اقتبست العنوان))