بعد 35 سنة من رحيله..العندليب على القمة
كتبت- ماجدة خير الله :
الخميس , 29 مارس 2012 12:00
لم نعرف إن كان عبد الحليم حافظ قد أدى الخدمة العسكرية أم لا، ولكنه بالتأكيد لم يزور أوراقاً رسمية حتى يتهرب منها! وربما يكون قد حصل على إعفاء
نظراً لسوء حالته الصحية التى لم يدعها ولم يتاجر بها كما كان يُشيع منافسوه، وربما لم يكن عبد الحليم يتمتع بلياقة بدنية كتلك التى يتمتع بها «تامر حسنى» مطرب هذا الجيل، ولكنه أى عبدالحليم كان يمثل نموذج الشاب النبيل العاطفى الذى يحترم المرأة أو الفتاة التى يحبها فى أفلامه فلم يقدم مشهدا فى اى من افلامه ينظر فيه لمؤخرة حبيبته ويصيح بطريقه فجة «هو ده»، ولا غنى لها كلمات تافهة من عينة أحلى حاجة بحبها فيكى طيي.. ويقطع الكلمة قبل ان ينطق آخرها ويقول طيبة قلبك،وإنما كان يغنى لو كنت يوم أنساك إيه افتكر تانى، أو كفاية نورك عليه أو أهواك وأتمنى لو أنساك، جبار فى قسوته خدعتنى ضحكته، إنه نموذج للشاب المصرى الذى ينتمى للطبقة الوسطى من حيث المنشأ ولكنه سرعان ما يقفز بفضل موهبته وجهده واجتهاده ويحقق نجاحا يجعله محط اهتمام الفتيات سواء كن ينتمين لنفس طبقته أو من طبقة أعلى منها!
ولذلك ظل النموذج الذى كان يقدمه عبد الحليم فى افلامه هو نموذج الشاب الذى تحبه الفتاة وتطمئن له وتضحى من أجله لأنها على ثقة فى أنه لن يخذلها أبداً!
قبل ظهور عبدالحليم فى الخمسينيات من القرن العشرين كانت الساحة الغنائية، تمتلئ بأصحاب الصوت الرخيم،الرجولى القوى، وكان عبدالغنى السيد يغنى «ع الحلوة والمرة مش كنا متعاهدين»! وكارم محمود يغنى «أمانة عليك ياليل طول»، وعبدالعزيز محمود يغنى «يا شبشب الهنا يا ريتنى كنت أنا»، وفريد الأطرش يغنى «حكاية غرامى حكاية طويلة»، أما عبدالوهاب فكان يغنى «أنا والعذاب وهواك»!
وكل من هؤلاء كان له جمهور عريض ومعجبون وعشاق، ولكن عندما ظهر الشاب النحيل عبدالحليم حافظ وغنى بصوته الشجى لنهر النيل وكأنه يخاطب معشوقته «يا تبر سايل بين شطين ياحلو يا أسمر»، بعد عامين التقينا ها هنا! عاشق الأضواء لا تخشى احتراقه وأنا أعتنق الحب اعتناقا، لا تلمنى، كان هذا إيذاناً لصاحب هذا الصوت أن يتسلل إلى وجدان الشعب المصرى والعربى، ويقعد ويتربع، ويصبح بعد ذلك الصوت الذى يعبر عن ثورة شعب!
لم يحدث عبدالحليم ثورة فى عالم الغناء فقط، بل فى مجال الفيلم الغنائى أيضا، قبله كانت أفلام المطربين لا تخرج عن فكرة واحدة مكررة، وهى فى الغالب قصة صعود مطرب، من عالم الفقر والغلب ومحاولة إثبات الذات إلى عالم النجاح والثراء والشهرة!
أما عبدالحليم فقد كسر كل القواعد التى سبقته، فلم يلتزم بتمثيل شخصية المطرب الذى يبحث عن فرصة لإثبات موهبته إلا فى القليل جداً من أفلامه، مثل: «لحن الوفاء، معبودة الجماهير، شارع الحب، حكاية حب» رغم أن عدد أفلامه يصل الى 16 فيلما، بعضها من إنتاجه، ولكنك من البداية يمكن أن تلحظ تمرده على أداء دور المطرب فى الأفلام، مثل دوره فى «ليالى الحب» الذى ظهر فيه فى شخصية موظف مجتهد فى شركة للمنسوجات ينجح فى اختراع نوع من القماش يقاوم الاحتراق، وعندما يقدم هذا الاختراع لرئيسه المباشر، يسرقه ويقدمه لمن فوقه، فيسرق الفكرة ويقدمها لمن فوقه وهكذا، ويشعر صاحب الشركة ان هذا الاختراع يمكن ان ينقذه من الإفلاس غير انه يبحث عن الدماغ الذى توصل لهذا الاختراع ويفاجأ أنه هو نفسه الموظف البسيط «أحمد ممتاز» أو عبدالحليم حافظ، الذى جاء ليقدم له الفكرة بنفسه فاعتقد أنه ابن أحد الأثرياء نظراً لتشابه اسمه مع اسم ابن هذا الثرى، وفى «ليالى الحب» يقدم عبدالحليم عدة أغنيات منها: «كفاية نورك علية، اقول ماقولش، يا سيدى أمرك» وكلها أغنيات لم تقدم على مسرح ولكن فى أماكن طبيعية، خرج فيها عبدالحليم عن كل أشكال الغناء السينمائى لمطربين سبقوه فى مجال السينما، وفى فيلم «ايام وليالى» قدم عبدالحليم عدة اغان شديدة الروعة مثل: «عشانك يا قمر» وكان يركب موتوسيكل وهو يؤديها، وخلفه مجموعة من الشباب على موتوسيكلات فى تشكيل جمالى فريد على السينما المصرية ولم يحدث بعدها فى أى من أفلام المطربين الذين ظهروا خلال النصف قرن الأخير، وفى «ايام وليالى» ايضا قدم اغنيته الرائعة «انا لك على طول خيلك ليه»، التى قدمها فى قارب يحوم حول العوامة التى تسكنها حبيبته «إيمان»، وانتهت الأغنية بسقوطه فى النيل، كما قدم أيضا اغنية «توبة إن كنت أحبك تانى توبة»، فى فناء جامعة القاهرة، وهو اول الافلام التى يظهر حليم، فيها قدرته على الأداء التمثيلى وخاصة فى المشهد الذى جمعه بوالده الذى لم يكن يعرفه «محمود المليجى»!
أما فيلم الخطايا فجسد من خلاله شخصية شاب يدرس فى كلية الهندسة، ويحب زميلته «نادية لطفى»، ولكن والده يرفض زواجه منها، بل يعامله معاملة جافة لأنه لم يكن ابناً شرعيا، وطبعا لا يمكن ان تنسى الصفعة التى وجهها عماد حمدى لعبد الحليم الذى اتهمه بالظلم والتفرقة فى المعاملة بينه وبين شقيقه الأصغر «حسن يوسف»، وقدم عبدالحليم فى «الخطايا» أغنيات:
«مغرور حبيبى كتير، والحلوة برموشها السودا الحلوة، وقولى حاجة اى حاجة، وقصيدة جئت لا أعلم من أين التى لحنها محمد عبدالوهاب من قصيدة لشاعر المهجر إيليا أبو ماضى! أما فيلم الوسادة الخالية فهو فيلم أكد موهبة عبدالحليم فى مجال التمثيل، وكان يمكن ان تقبل الفيلم بدون اى أغان، لولا الضرورة الإنتاجية، والقصة عن رواية لإحسان عبد القدوس يناقش من خلالها فكرة الحب الأول، ويقدم من خلالها عبدالحليم شخصية شاب يدرس فى كلية التجارة، ويحترف السقوط فى كل عام، وعندما يجد فتاة أحلامه «لبنى عبدالعزيز» يجد معها حافزا للنجاح، ولكن الفتاة تتزوج من آخر، مما يفقده السيطرة على نفسه ويعانى مرارة الفشل، ويسعى للتفوق الدراسى ثم المهنى كى يجعلها تندم على زواجها من آخر، ورغم زواجه بأخرى «زهرة العلا» إلا أن صورة حبيبته الأولى تظل تطارده فى يقظته وأحلامه، مما كاد يتسبب فى فشل زواجه وضياع حياته! وقدم فى فيلم «يوم من عمرى» شخصية صحفى شاب يبحث عن خبطة تصل به الى النجاح وشاركته البطولة زبيدة ثروت وشريكه الحميم عبدالسلام النابلسى، وكان آخر أفلامه هو مسك الختام ومعه قدم تحدياً جديداً لنفسه، ولكل من جاء بعده من المطربين الذين عملوا فى السينما، واضح تأثر احسان عبد القدوس بقصة فيلم «الخريج» الذى قدمه داستن هوفمان مع آن بانكروفت، عن علاقة شاب جامعى بامرأة تكبره سناً، وهوسه بها جنسياً وعاطفياً، مما كاد يؤدى الى انهيار حياته، إحسان عبد القدوس كتب القصة مباشرة للشاشة وحولها سعد الدين وهبة الى سيناريو وقام بإخراج فيلم «ابى فوق الشجرة» حسين كمال، الذى أصر على تقديم عبدالحليم فى شكل جديد يناسب سنوات السبعينيات، وكانت أغنيات «دقوا الشماسى» و«الهوا هوايا» و«يا خلىّ القلب» مقدمة لما سمى بعد ذلك بالفيديو كليب، ثورة فى أسلوب تقديم الأغنية السينمائية لم يسبقه غيره إليها، وأصبحت دقوا الشماسى هى الأغنية المُعتمدة والمُعبرة عن شهور الصيف ومرح المصيفين على البلاجات!
حقق فيلم «أبى فوق الشجرة» نجاحاً تجارياً كاسحاً، ولا يزال يحقق النجاح عند عرضه فى سينما الدرجة الثانية والثالثة، وبعد النجاح المذهل لهذا الفيلم فكر عبدالحليم فى إحداث ثورة جديدة فى حياته السينمائية، وقرر أن يظهر فى فيلم «لا» عن قصة الصحفى «مصطفى أمين» دون أن يقدم أي أغان، وكانت القصة تدور حول رجل يتم سجنه ظلما، لأنه قال كلمة لأ، فى وجه سلطان جائر، فتم تلفيق تهمة له، وإيداعه السجن سنوات طوالا، ولكن وفاة عبدالحليم المفاجأة فى عام 1977 قضى على هذا المشروع، مات عبدالحليم حافظ عن 48 سنة، فى 31 مارس من عام 1977 وهو يحمل أحلاماً كثيرة لم يُمهله القدر لتحقيقها، وأصبح أسطورة فى عالم الغناء تتحدى كل من أتوا بعده!
اقرأ المقال الأصلي علي بوابة الوفد الاليكترونية الوفد - فيديو..بعد 35 سنة من رحيله..العندليب على القمة