بليغ حمدى نهرالموسيقى المسكون بمواطن الشجن
المصدر: الأهرام اليومى
بقلم: احمد السماح
مثل الشهب شق صدر سماء اللحن المصرى والعربى بثقة فأحدث الدهشة وأدرك الذهول عقول المطربين والملحنين على السواء من فرط عبقرية موسيقاه التى تخاطب الروح وتأسر الوجدان، فتترى لها المشاعر الدافئة وتتوق لها النفوس المعذبة فى دنيا الهوى والغرام، وتهتز لها الأبدان المفتونة بعشق تراب الوطن، وبمفعول السحر تسرى جمله اللحنية فى عروق البسطاء نابضة بدماء الحرية فتغلى مثل بركان هادر يدفع نحو حافة خلاص النفوس من الظلم والاستبداد.
هو سهم نافذ فى قلب مواطن الشجن العربى استطاع أن يخترق جوهر المشاعر المصرية فى سهولة ويسر ليصبح الفاتح الأكبر لصناعة اللحن الشجى على مصراعيه وبأقصى درجات التحرر الكامل من أيّ قيد يَحُول بينه وبين التّحليق فى سماء الفن الذى عشقه منذ أن فتح عينه على الدُّنيا.
إنه عبقرى الموسيقى المصرى بليغ حمدى الجامع بين القديم والجديد فى عالم موسيقى فريد ومبتكر عشقه منذ نعومة أظفاره فلم يترك بابًا يأنسُ من ورائه شعاعًا من فائدةٍ فنّيةٍ إلاّ وَلَجَهُ فبدا لحنه فى شكله العام سهلا ممتعا وشجيا بينما جوهره يمتاز بالجذالة التى لاتفقد حداثتها، واعتمد فى تكوين خبراته الموسيقية على الموسيقى الشعبية المصرية والفولكلور المصرى ولاسيما الفولكلور الصعيدى، كما أهتم أيضاً بالفولكلورالشامى، فضلا عن دراسته العميقة لعلوم الموسيقى الأوربية بما فيها الهارمونى والتوزيع الموسيقي.
وإذا كان «زرياب» تلميذ «اسحاق الموصلى» قد زاد فى أوتارعوده وتراً خامساً فاكتسب به ألطَفَ معنى وأكمل فائدة وأدخل على الموسيقى مقامات كثيرة لم تكن معروفة قبله، فإن بليغ حمدى استطاع أن يستوعب كل ذلك ويضيف آلاف من الأوتار التى تعزف على ايقاع المشاعر الإنسانية الرقيقة والغالبة على كل معنى وقيمة، فتميزت ألحانه للأغنية المصرية بالشكل القومى، وتميز عن جيله وكل من سبقوه باستلهام الألحان من التراث وإعادة تقديمها فى شكل مبتكر يناسب العصر وإيقاعه، ولم يكن الإيقاع بالنسبة له هو الميزان الإيقاعى التقليدى بل انه ذلك الذى يمثل نبض الموسيقى الخفى.
وعلى صغر سنه فى بداياته الموسيقية فقد تعددت منابعه حيث أعطى اهتماماً بالغاً للموسيقى التركية والفارسية وموسيقى الخليج العربى وموسيقى بلاد المغرب العربى وكذلك موسيقى بلاد الشام، وليس هذا فحسب بل انه اهتم بدراسة آلات هذه البلدان وإيقاعاتها ومقاماتها وأساليبها فى الغناء والتطريب والتأليف الموسيقى واقام مزجا حيا بين كل تلك الموسيقات، وهو الذى أدخل التوزيع الآلى فى ألحانه، وطور فى أسلوب أداء المجموعة الصوتية «الكورال» فقد أعطى للمجموعة الصوتية المصاحبة للمطرب دوراً بارزاً بعد أن كان دورها ثانوياً ووظف بعض الآلات الجديدة على التخت العربى بطريقة مبتكرة مثل الساكسفون والجيتار والأورج، كما أدخل الموسيقى الالكترونية فى ألحانه ليستوعب فى النهاية كل أدوات عصره. بليغ حمدى لم يكن ملحنا موهوبا فحسب بل ملحّن مفكّر، يلحن لكل مطرب ما هو مناسب لصوته، فلا يلحن لوردة مثل عبدالحليم، ولا يلحن لأم كلثوم مثل فايزة أحمد، فقد بنى بليغ لحنه على أساس فائق الاهمية هو معرفته لتكوين المزاج العربي، فكان يلحّن لهذا المزاج العربى العام، ومع ذلك لم ينل من التكريم فى حياته أو بعد مماته مايوازى كونه أفضل من انجبت الموسيقى العربيه.