حديث صحفى رائع للدكتور مرسى سعد الدين عن شقيقه الموسيقار بليغ حمدى
بليغ عندما ظلم انكسر؟
ـ أنا حزنت على الظلم الذي أصاب بليغ أكثر من الذي واجهني، وما أحزنني في ظلم بليغ أنه حتى الصحافة لم تقف بجواره، يعني الوحيد إلى وقف جنبه كان الصحافي محمود صلاح.. الله يمسيه بالخير.. كلمني وقتها. وكان بليغ في فرنسا، قال لي أريد حوارا مع بليغ، أعطني تليفونه، وفعلا عمل معه حديث. الكاتب الراحل فوميل لبيب ألّف كتابا يقول فيه إن عبد الوهاب «كان ورا الحكاية دي»، قلت لا يمكن عبد الوهاب يؤذي بليغ.
*هذا يعني أنك تؤكد على أن عبد الوهاب لم يلعب دورا ضد بليغ على الرغم مما كان بينهما من تنافس وغيرة مهنية؟
ـ كان بينهما تنافس، ولكن عبد الوهاب لم يتآمر ضده.. من مظاهر التنافس أن عبد الوهاب لحن لأم كلثوم بعد أن لحن لها بليغ أربع أغنيات وربما أكثر.. وهناك فارق آخر: كان بليغ يخدم الصوت.. أما عبد الوهاب فكان ينافس الصوت ويحاول أن يجعل الموسيقى تتغلب على الصوت، ولذلك دائما ما تجد من يغنون لبليغ يغنون وهم مرتاحون.. بليغ كان عنده كتاب حاطط فيه أصوات الناس بعلاماتهم.. عبد الوهاب قال ذات مرة: «النغمة اللي يعملها بليغ في ساعة إحنا نقعد 10 ساعات نعملها». لكنه لم يكره بليغ ولم يشارك في مؤامرة ضده لا أظن ذلك.
*قلت إنك أكبر من بليغ بنحو 12 سنة فكانت علاقة بها قدر ما من الأبوة؟
ـ المشكلة أن بليغ حينما بدأ يكبر لم أعد أراه.. وحينما سافرت إلى لندن كان بليغ عنده 12 سنة وحينما عدت كان عمره 24 سنة وكان معروفا. والدي توفي بعد سنة من سفري. كنت أريد أن أعود لكن أمي رفضت.. وقالت: «والدك هيزعل في قبره».
*في فترة وهج بليغ كانت علاقتك به فيها الصداقة أم الأخ الأكبر؟
ـ لا.. صداقة، لما حب مثلا يتجوز سامية جمال أخذني معه لكي أخطبها له.
*قبل ما تتجوز «رشدي أباظة»؟
ـ طبعا كانت ساكنة في الزمالك في العمارة المشهورة التي تسكن فيها فاتن حمامة (يقصد ليبون) ولم تكتمل الحكاية.
*رفضت؟
ـ وقتها لم ترفض.. إحنا مشينا على أنهم مخطوبين.. ولا أعرف ماذا حدث بعد ذلك.
*وسميرة سعيد.. هل كنت موجودا عندما أراد بليغ خطبتها؟ ـ لا.. لم أعرف أبدا أنه كان يريد أن يخطبها، لكنه كان يحبها جدا.. وهي أكثر من أخلصت لبليغ، يعني مثلا لطيفة التي لحن لها لم تتكلم عنه بشكل جيد، أذكر مرة كنت في المغرب في زيارة، وكانت سميرة تقيم حفلة في ناد، وحينما رأتني جاءت وسلمت علي وغنت كل أغاني بليغ، لدرجة أن المغاربة زعلوا.. لأنها لم تغن إلا غنوة واحدة مغربي.. فهاجموها فقالت لأن أخو بليغ كان موجودا، ست ممتازة أنا بحبها جدا.. لطيفة كنت ساعات أقابلها، كأني لا أعرفها.
*بالنسبة لمشروع مسلسل بليغ حمدي، ألم يكن لك تحفظات؟
ـ شرطي الوحيد أن أقرأ السيناريو.. ووافقت عليه.. مكتوب حلو.
*لم تطلب، كوريث، الحصول على مقابل؟ ـ أنا أندهش إزاي ياخدوا فلوس، المهم المسلسل مكتوب كويس.. لا أريد أن يرى الناس بليغ ملاكا، كل واحد وله عيوبه.. قعدت معهم وحكيت لهم كل ما أعرفه عن بليغ وأعطيتهم كل المعلومات التي أعرفها وكتبها محمد الرفاعي بكل صدق.
*هل سيتناول المسلسل قضية سميرة مليان المغربية التي انتحرت من شرفة منزل بليغ؟
ـ آه سميرة طبعا.. أنت تعرف ما حدث.. بليغ دخل ينام..
*وهى انتحرت؟ ـ الغلطة أن محمود سكرتير بليغ أخذ الثري الخليجي وكان موجودا في السهرة بسرعة إلى المطار وسافر وترك البلد.. ناس قالت إنه دفعها وناس تقول هي التي انتحرت.. لكن يتجنوا عليه ويقولوا إنه كان فاتح بيته للدعارة!! هل هذا كلام؟ بليغ دخل نام وقفل الباب عليه.. لكن الصحافة ظلمته وقتها.
*أدانته قبل أي حكم؟
ـ أنا أتيت به من فرنسا من أجل جلسة النقض.. ولأن الحكم الابتدائي أدانه، واحد صاحبه قاضي قال له يا بليغ سافر لأن الاستئناف سوف يؤيد الحكم فسافر فرنسا.. عندما جاء النقض كان لازم يكون موجود فذهبت له وقتها، لسوء الحظ مطار فرنسا كان فيه حالة إضراب.. ووصلنا يومها ليلا.. وكان وقتها وزير الداخلية الذي يسمونه الإسلامي.. كان لطيفا.
*تقصد اللواء عبد الحليم موسى وزير الداخلية؟
ـ نعم نعم.. قال: بليغ لا يجلس في القسم بليغ يقعد في بيته ويأتي إلى المحكمة في الصباح.. وقتها كان في انتظاره في المطار عادل إمام وفنانون آخرون وسهرنا في البيت حتى الصباح وذهبنا إلى المحكمة وحينما صدر قرار المحكمة انطلقت الزغاريد وكان قرارا عظيما، وكيل النيابة قال: أنا أطلب البراءة لأنه لا توجد قضية أساسا!! وهذا سبب مرض بليغ.. كان يقول حسبي الله ونعم الوكيل.. مرض بليغ في السنوات الخمس التي قضاها في فرنسا.. صحيح ماديا كان ميسورا ووقتها عرض عليه الملك الحسن الثاني الجنسية المغربية، فقال: «لا.. لازم ارجع مصر الأول».. ظلم كثيرا.
*بليغ كان يتمنى أن يصبح أبا.. قيل إن وردة رفضت ذلك؟
ـ يمكن هذا كان من أسباب الطلاق، وردة لا تريد «عاوزة تغني، وأنا كتبت مرة إنها أجهضت نفسها مرتين.. لكن معرفش.. ناس قالوا لي هذه الواقعة..».
*بليغ لم يكن يلتزم بالمواعيد؟
ـ مواعيده المنضبطة الوحيدة هي مواعيد بروفات الأغاني.. الفرقة تبقى جاهزة هو يبقى موجود..
*قيل إنه يوم زفافه على وردة ارتدى ملابسه وذهب إلى بيروت على الرغم من أن زواجه كان في القاهرة؟ ـ فعلا.. بحثوا عن بليغ وجدوه في لبنان.. دي قصة حقيقية.. هو كان كثير النسيان.. كان فنان جميل.
*هل ترك بعض الموسيقى أو الأغاني لم تظهر إلى النور إلى الآن؟
ـ أعتقد ذلك، ولهذا أستاذ في معهد الموسيقى العربية هو د. زين نصار، قلت له أريد أن تأتي وترى.. موسيقى بليغ كلها نحتفظ بها في حجرة مكيفة في بيتنا القديم في شبرا.. لكي نحافظ عليها.. بليغ لم يكن يترك نغمة تفلت منه.. وأحيانا كنا نتناول الغداء تيجي حاجة في دماغه يطلّع ورقة ويكتب حاجة واسمعها على البيانو!! انت عارف عبد الوهاب كان يدندن على العود ويخلي حد يكتبها له.. بليغ كان يكتبها الأول وبعدين يعزفها من النوتة اللي هو كاتبها.
*لو وضعت عنوانا لحياتك ماذا تقول؟
ـ أعتقد إن أهم حاجة في حياة الإنسان يكون عنده نوع من الرضا.. أهم حاجة.. عندما كانوا يسألونني النصيحة أقول أهم حاجة الإنسان يكون عنده رضا بما يعمله.. يوسف السباعي كان عنده مثل جميل جدا.. يقول: «في ناس بتتكعبل في طموحاتها».. تعبير حلو جدا.. أنا عندي رضا.. أنا مؤمن والحمد لله عندي ثقة بالنفس.. عمري ما فكرت أعمل فلوس.. يعني عندي فلوس تعيشني الحياة التي أحبها.. أقدر أخرج.. أقدر أسهر.. أقدر أشتري لزوجتي ما تريده.. إنما عمري ما كان عندي طموحات أتكعبل فيها.
*في القرآن يقول ربنا «ولسوف يعطيك ربك فترضى»..
ـ آه طبعا.. فترضى.. والرضا يجعلك مرتاحا وأنت نائم لا تفكر في ترقية ولا علاوة.. الوظائف جاءت لي ولم أسع إليها.. سأحكي لك حكاية لطيفة؛ عندما تخرجت في الجامعة حاولت الحصول على منحة من المركز البريطاني أدرس صحافة في لندن، وكان مدير البعثات نجيب بك هاشم الذي أصبح وزيرا بعد ذلك.. وكان يجب أن أقابله، عندما ذهبت قال لي: أهلا يا سعد، أنا واحد صاحبي إنجليزي أرسل لي خطابا وأريد أن أرد عليه ماذا أقول له بالإنجليزي؟ يريد أن يختبرني.. قال لي يا سلام ده إنجليزي جميل.. المنحة لم تتم لأن هذا الموضوع كان سنة 44 والحرب العالمية ما زالت موجودة.. جاءت سنة 45.. وجدت جرس التليفون يرن، كنت وقتها أعمل في «الإيجيبشن جازيت»، قال لي: أ. سعد؟.. أيوه. نجيب هاشم معاك تعالى لي.. يا سلام دي المنحة جاءت.. قال لي أنا اتعينت مدير معهد في لندن وعايزك تبقى سكرتير للمعهد. قلت له يا افندم أنا لست موظفا حكوميا، قال لي تعالى أنا محضر لك الاستمارة تملاها.. وبعدها بثلاثة أيام أصبحت موظف حكومة.. بعدها بأسبوعين كنت على المركب إلى لندن.. شفت بقى؟
*الجزء القدري في حياتك فقدانك لابنك الوحيد حمدي؟
ـ الحمد لله.. أنا حياتي اتغيرت مرتين.. طبعا اتغيرت.. أولا أنا كل اخواتي الأصغر مني ماتوا.. إنما حمدي ابني الوحيد وكان صديقي أيضا.
*كنت أقابله في مهرجان القاهرة وكان يتولى الترجمة..
ـ كان يجيد العديد من اللغات، في 24 ساعة خلص.. حياتي اتغيرت كلها.. زوجتي انت عارف توفيت منذ سنة ونصف عن 70 سنة، كنا مع بعض، كنا سوا في الجامعة.. وراحت.. فحياة الواحد بتبقى «...» ورغم كده أعمل وأكتب وأذهب إلى الجريدة معرفش!! ده مش معناه إن عندي برود عاطفي.. طبعا ساعات أتذكرهم كلهم وحمدي وهو صغير.. اتولد في لندن، عشان كده أخد الجنسية وبنته اتجوزت دلوقتي.. ربنا يسعدهم، لكن الوحدة وحشة.
*كتبت أن على مائدة الإفطار هناك دائما طبق لحمدي وله كرسي لا يزال على المائدة؟
ـ كتبت مقالا اسمه «الكرسي الخالي».. كانت تأتي علي فترات أكتب حاجات تجعل القارئ يبكي، ثم رجع أقول أنا أخرج ما في قلبي.. رغما عني، كتبت عن عنايات زوجتي رفيقة الرحلة.. والمؤلم أكثر أني وحدي في الشقة التي عشنا فيها عمرنا كله.. وحفيدتي تريد مني أن أنقل إلى جوارهم.. تقول: يا جدي على الأقل ولادنا نبقى نتركهم لك.. أنا الذي ربيت حفيدتي.. ألفت كتابا اسمه «حفيدتي وأنا».. تجربة شخصية في تربية حفيدتي.. الحمد لله الرضا هو الذي جعلني لا زلت حيا.. في فترة من الفترات فكرت لماذا أنا حي.. فكرت في الانتحار وعدلت عن الفكرة.. كل اخوتي راحوا وابني راح وزوجتي راحت.. إيه الهدف؟ الواحد عايش اليوم بيومه.. «باتقبّل اللي جاي واتقبّل اللي راح واعيش الحياة!!».