حب وموت وجراح في… حكايات وردة مع الزمان
تنبأ لها كثيرون بالمجد الغنائي منذ طفولتها، بفضل ما كانت تملكه من موهبة حقيقية وحس فني يفوق سنوات عمرها، ورغم تكرار محطات الإحباط في حياة الفنانة الراحلة وردة الجزائرية فإن إصرارها على بلوغ المراتب الأولى سهّل مهمة تجاوزها العقبات والعراقيل.
بدأت حلاوة صوت «وردة فتوكي» -الفرنسية المصرية الجزائرية اللبنانية- تظهر وهي طفلة صغيرة، في المطعم الذي كان يمتلكه والدها بالعاصمة الفرنسية، ما جعل منها ظاهرة منذ طفولتها ونشأتها في العاصمة الفرنسية باريس، رغم أن عائلتها جاءت من ولاية قسطنطينة، وهي منطقة جبلية في الجزائر، وقد طبع هذا الانتماء على شخصيتها طابع الجدية والصرامة، والقدرة على كتم انفعالاتها ومشاعرها وعدم البوح بما يُغضبها.
اقتربت من الموت وهي صغيرة عدة مرات، مرة حين دخلت ثلاجة مطعم والدها هي وشقيقها مسعود كي يهربا من المدرسة وبالطبع لم يكونا يعلمان أنها لا تفتح من الداخل وظلا بداخلها أكثر من ساعتين، تجمع خلالها الثلج على وجهها، وغابت بالفعل عن الوعي، بينما استمر مسعود شقيقها في صراخه حتى تم إنقاذهما، ومرة أخرى أثناء الحرب العالمية حين اختفى اللبن تماماً من الأسواق، وهذا النقص في اللبن أضر صحتها كثيراً، إذ عانت سوء التغذية السليمة وكان البديل هو حقنة تأخذها من حين لآخر تجعلها تستطيع الوقوف على قدميها، إلا أن الله قسم لها العيش ومن دون آثار جانبية، حيث كانت مهددة بالإصابة بالشلل نظراً إلى سوء التغذية.
كانوا يطلقون على وردة «الطفلة المعجزة» ربما لأن مجيئها إلى الدنيا كان بالمصادفة التي لم يتوقعها أحد، خاصة أن أمها كانت مصابة بمرض السكري ونصحها الأطباء بعدم الإنجاب، لكنها رفضت التخلص من الجنين لتولد وردة، التي كانت تسهر على راحة أمها والاهتمام بها بعدما كبرت.
تحكي وردة عن طفولتها: «كنت طفلة عدوانية والبعض كان يطلق عليّ لقب الشرسة، ربما كان ذلك رد فعل لنصائح والدي الدائمة بضرورة أن أكون جادة ولا أتباسط في التعامل مع أي شخص».
وتكمل: «أول مرة وقفت على خشبة المسرح للغناء كان عمري 11 عاماً، وكنت في حفلة للأطفال على أحد مسارح باريس، وبمجرد أن اقتربت من الميكروفون فقدت النطق تماماً فبكيت، لذا صفق لي الجمهور لتشجيعي، ورغم ذلك التزمت الصمت ولم أستطع الغناء، الأمر الذي جعلني أشعر بالإحباط رغم أنني كنت دائمة الغناء في البيت أمام أسرتي وزبائن المطعم».
أما أصعب اللحظات في حياتها، فعندما اضطرت للانفصال عن زوجها الأول ووالد أطفالها رياض ووداد من أجل الغناء ومواصلة مشوارها الفني.
المكافحة
كافحت وردة، التي رحلت قبل أيام إثر أزمة قلبية، حتى تفتحت موهبتها بصورة دفعت الفنان أحمد التيجاني صديق والدها لاكتشافها وتقديمها في الإذاعة الفرنسية الموجهة للعرب في شمال إفريقيا، وحين نجحت عبر غنائها لأشهر أغنيات الفنانين المعروفين وقتها مثل أم كلثوم وأسمهان وعبدالحليم حافظ،غادرت باريس إلى لبنان مع أسرتها لأسباب سياسية، حيث كان والدها على ارتباط بالثورة الجزائرية، وفي يوم اكتشفت الشرطة أنه يخفي لديه بعض الأسلحة الخاصة بالثوار فتم اعتقاله، وبقي 17 يوماً تحت التعذيب بمياه الدش الباردة كي يعترف، وبعد إطلاق سراحه لم يكن أمام العائلة إلا أن ترحل إلى لبنان مسقط رأس عائلة والدتها.
وفي لبنان افتتح والدها مطعماً جديداً في «طانيوس»، وهو المطعم الذي تخصص في تقديم أطباق «الكسكسي» وكان يحوي تختاً شرقياً أندلسياً يصاحب بالعزف كبار المطربين مثل فريد الأطرش ومحمد فوزي ونور الهدى، وهناك ذاع صيتها عبر ما تقدمه من أغنيات لكبار نجوم الغناء، قبل أن تلتقي المنتج والمخرج حلمي رفلة الذي عرض عليها بطولة فيلم «ألمظ وعبده الحامولي» وبالفعل لعبت بطولته مع المطرب عادل مأمون وحقق الفيلم نجاحا كبيرا.
في بيروت سمعها أيضا الموسيقار محمد عبدالوهاب وأثنى على صوتها ونصحها بضرورة أن تأتي إلى مصر وقد كان.
أما أول جراحة في القلب فقد أجرتها عام 1993، وفي أعقاب نوبة نشاط فني مكثف حيث كانت تعمل بصورة جنونية، حيث أنهت تصوير فيلم «ليه يا دنيا» مع المخرج هاني لاشين، وسجلت ألبوم «بتونِّس بيك» وشاركت في عدة حفلات بأستراليا ولبنان وكندا والمغرب ودبي، وفي إحدى الليالي وبينما كانت تتناول العشاء في مطعم بباريس فوجئت بألم شديد في ذراعها اليسرى، وفي الحال نقلها ابنها رياض إلى المستشفى وكان تشخيص الحالة أزمة قلبية استدعت تغيير 3 شرايين.
العاشقة
وردة التي تغنت كثيراً بالحب لم تعرفه إلا مع زوجها الثاني الراحل بليغ حمدي، كما أكدت في الكثير من حواراتها، مع بليغ تذوقت «حلاوة الحب» وليس فقط «التوأمة الفنية والروحية» التي لعبت دورا في تألق مشوارها الفني.
كان أول لقاء جمعهما حينما رشح محمد حسن الشجاعي رئيس الإذاعة آنذاك الموسيقار الشاب بليغ حمدي لمنتج الفيلم حلمي رفلة ليشارك بألحانه في فيلم «ألمظ وعبده الحامولي»، وكان اللقاء الأول أشعل حماس بليغ نحو وردة المطربة فقط، بل وحرره كما يؤكد الكاتب الراحل فوميل لبيب في الحلقات التي كتبها عن بليغ ونشرتها مجلة الشبكة اللبنانية في أبريل عام 84، إذ تساقطت الدموع من عين بليغ وهو يستمع لها وهي تغني له «بحبك فوق ما تتصور» إحدى أغنيات الفيلم، لتبادله وردة الإحساس والدموع أيضاً، ما دفع حميدو شقيق وردة، الذي كان يلازمها كظلها، إلى أن يطرده من الأستديو، ومع تصاعد الشائعات التي تشير إلى قصة الحب التي تجمعهما حسمها حميدو بتصريحاته أن وردة شقيقته لا تفكر في الزواج قبل أن تحصل الجزائر على استقلالها، وبعد أن تحيي حفلات النصر.
غير أنها وبعد انفصالها عن زوجها الأول وعودتها إلى مصر لتستأنف وصل ما انقطع في مشوارها الفني عادت للاتصال ببليغ، وطلبت منه أن يجهز لها أكثر من لحن، كان منها «والله زمان يا مصر» والذي شاركت به في الاحتفال السنوي بعيد ميلاد إذاعة صوت العرب، وأغنية «العيون السود» والتي نجحت عبرها في استعادة مكانتها بقوة على خريطة الغناء.
وتواصلت اللقاءات الفنية، والتي تأكد عبرها أن «سهم كيوبيد» استقر بأمان في قلبيهما فكان الارتباط، ليس فقط حسماً للشائعات، ولكن لأنه لم يعد بالعمر ما يمكن إضاعته كما أكدا.