عبد الحليم حافظ.. الدرس الذي لم يتعلمه أحد من مطربي هذا الجيل
في الذكرى الثالثة والثلاثين لوفاته
طارق الشناوي
كانت لديه القدرة على الإبداع ورفض القديم من الفن بإبداع فن عصري، وليس بالأحاديث الصحافية.. امتلك بوصلة للاتجاه إلى الأصدق والأجمل والأكثر عصرية ونجومية بالثقافة والوعي.
لا يعيش الفنان بمعزل عن الحياة ولا عن البشر، فهو بقدر ما يأخذ منهم يمنحهم، كما كان يقول أحمد شوقي إنه يمتص رحيق الزهور ليعطي عسلا شهيا!! والزهور في حياة الفنان أصدقاؤه المقربون الذين يتحولون إلى أشرعة يطل من خلالها الفنان على الدنيا.. كان الشيخ الملحن «أبو العلا محمد» ثم الشاعر «أحمد رامي» هما شباك الثقافة الذي أطلت منه أم كلثوم على كل ثقافات الدنيا، وكان أحمد شوقي هو دليل عبد الوهاب في بداياته مع مطلع العشرينات من القرن الماضي في التذوق الفني، وفي تذوق الحياة، ومن الواضح أن عبد الحليم حافظ قد استفاد من تجربتي أم كلثوم وعبد الوهاب، ولهذا اتسعت دائرته في الثقافة لتشمل العمالقة كامل الشناوي ومصطفى أمين وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي..
هذه الكوكبة من المفكرين لم يسع إليها عبد الحليم، لأنه يريد أن يجمل صورته أمام المجتمع، ولكن من خلالهم أدرك عبد الحليم أن عليه تذوق الكلمات والألحان، وأيضا الأقوال.
هناك دائما بين الفنان وجمهوره جسر، وهو وسيلة الإعلام التي تقدم عنه صورة ذهنية، حتى إن أغلب المطربين لكي يضمنوا تعاطف الجمهور كانوا يقدمون في أفلامهم قصة كفاح لمطرب يبدأ من السفح حتى يصل إلى القمة، ويضحي ولا يتنازل.. كل ذلك حتى يتم تثبيت هذه الصورة - ليس فقط من خلال أحاديثهم ولكن عبر الأفلام - من أجل أن يحدث توحد في العادة بين الفنان والواقع في تلك الصورة التي قدمت في العمل الفني، وإذا كان الزمن قد منح الجمهور قدرة على أن لا يترك نفسه نهبا للصورة الدرامية التي تقدمها الأفلام، فإنه على الجانب الآخر ترك المجال لكي نرصد الفنانين من خلال إبداعهم، وأيضا طريقة تسويقهم لهذا الإبداع والإعلان عنه، والأسلوب والتوقيت، وبعد تعدد الفضائيات صار الناس يتعرفون على الفنان من خلال اللقاءات التلفزيونية، وكثيرا ما يسيء مطربو هذا الجيل استخدام هذه المفردات!! من البديهي، على سبيل المثال، أن يأتي الفنان لكي يقدم رؤية مغايرة لما سبق، ولا توجد قدسية لأي عمل فني ولا لفنان، هناك فقط حق احترام التجربة السابقة.. أنا لا أوافق على أن نظل في حالة تقديس لكل ما هو ماض.. إنه ماض نحترمه نعم، لكننا أبدا لا نقدسه.. الاحترام يتيح لنا إمكانية الاختلاف، لكن القدسية لا تعرف إلا الخضوع والإذعان!! عبد الحليم حافظ لم يرفض فقط القديم، لكنه سخر منه، رفض عبد الحليم في البداية أن يغني أغنيات عبد الوهاب القديمة، وأصر على أن يردد أغنياته هو مثل «صافيني مرة» و«يا تبر سايل بين شطين يا حلو يا سمر» تلحين الموجي وتأليف سمير محبوب، وعندما قدم فيلمه «أيام وليالي» غنى «يا سيدي أمرك أمرك يا سيدي» التي كتبها فتحي قورة ولحنها محمود الشريف، وهي أقرب إلى روح المونولوج، تسخر من عدد كبير من الأغنيات والقصائد والأدوار القديمة لأم كلثوم والشيخ أبو العلا محمد ومحمد عثمان وعبده الحامولي وسيد درويش وصالح عبد الحي!! لأنه في البداية يقول: «وحقك أنت المنى والطلب والله يجازي اللي كان السبب» وهي قصيدة شهيرة لأم كلثوم وتلحين أبو العلا محمد لا تزال الإذاعة المصرية تحتفظ بتسجيل لها تقدمه بين الحين والآخر.
وموشح «بالذي أسكر من عرف اللمى» وبالمناسبة فإن «عرف اللمى» هو الريح الذي يأتي من شفة المرأة التي تميل للاحمرار، الموشح تلحين محمد عثمان وغناه الحامولي.. ويضيف فتحي قورة بأسلوب ساخر على نفس الوزن والقافية في الأغنية نفسها «كان في حالة جاتله داهية من السما» ولهذا فإن عبد الحليم يقول: «خايف أقول على قد الشوق لتطلع روحي» يقصد بالطبع أغنية «على قد الشوق» تلحين «كمال الطويل» وتأليف «محمد علي أحمد» التي رددها عبد الحليم حافظ، وكانت تمثل في ذلك الحين نقلة موسيقية حققت لعبد الحليم شهرة عريضة، واتهم بعدها أنه يقدم أغنية غربية.. لم يكتف «عبد الحليم» بأن يقول في حديث صحافي إنه يرفض الإذعان المطلق للقديم، ولكنه امتلك القدرة على أن يعلن ذلك في أغنية شهيرة عام 1955.
تقبل الناس هذه الأغنية، لأن عبد الحليم استند موسيقيا على اتجاه مغاير، فهو لم يقل مثل المطرب القديم «صالح عبد الحي» «أنا قلبي عليك عليك قلبي» وهو ما يعرف بـ«الهنك» حيث يستمر المطرب والكورس في تبادل تقديم الجملة نفسها، ولكنه اعتبر ذلك مادة ثرية للسخرية الغنائية، لأن لديه مشروعا فنيا مغايرا.
كان عبد الحليم حافظ شديد الاعتناء بالكلمات واختيارها، حتى لو اختلفنا مع عدد من أغنياته، إلا أنه على سبيل المثال يقول بكلمات مرسي جميل عزيز في أغنية «في يوم في شهر في سنة» «وعمر جرحي أنا أطول من الأيام».. أو هو يقدم تلك الصورة الشاعرية الرائعة لحسين السيد.. «كان فيه زمان قلبين الحب تالتهم».. أو مع مأمون الشناوي وهو يقول في أغنية «في يوم من الأيام» «أنا كل طريق لعيوني علمته بذكرى معاك»!! وأتذكر لمحمد حمزة في أغنية «سواح» تعبير «الليل يقرب والنهار رواح» ومع الأبنودي في «أحضان الحبايب» «رميت نفسك في حضن سقاك الحضن حزن»!! الكلمة عند عبد الحليم كانت تشكل بالنسبة له رهانا على الأجود، والدليل أن الأغنيات الأولى لعبد الحليم كتبها سمير محبوب، وبعد ذلك اكتشف أن لدى مأمون الشناوي ومرسي جميل عزيز وحسين السيد وصلاح جاهين شاعرية أكبر فاتجه إليهم.. ولهذا لم يكمل المشوار مع «سمير محبوب» الذي عاش بعد عبد الحليم حافظ خمسة عشر عاما وهو يتساءل: لماذا لم يكمل معي عبد الحليم حافظ الرحلة التي بدأها في أغنيات «صافيني مرة» و«تبر سايل» و«ظالم وكمان رايح تشتكي».. وبعدها أخذ «محبوب» يشكو لطوب الأرض من ظلم عبد الحليم وتنكره لرفيق المشوار، ولكن عبد الحليم ضحى بالصداقة من أجل الإبداع الأصدق والأجمل والأكثر عصرية، سواء أكانت كلمة أو لحنا، وكانت لدى عبد الحليم بوصلة قادرة على أن تلتقط الجديد ويجمل به حديقته الغنائية، ولهذا بعد الموجي والطويل ومنير مراد ينضم إليهم بليغ حمدي، ولو امتد العمر بعبد الحليم حافظ فلا شك أنه كان سوف يتعاون مع عمر خيرت وصلاح الشرنوبي والراحل رياض الهمشري ومحمد ضياء الدين، وصولا إلى وليد سعد.. ومع الشعراء من أمثال بهاء الدين محمد وفاطمة جعفر وعماد حسن وبهاء جاهين وجمال بخيت وأحمد بخيت ونادر عبد الله وكوثر مصطفى والمبدع الذي رحل مبكرا عصام عبد الله، وأيضا أيمن بهجت قمر صاحب المفردات الشاعرية والعصرية المشاغبة!! كان عبد الحليم لديه قدرة على أن يشعر بالكلمة واللحن الأكثر عصرية وصدقا. لكني أرى الآن أن أغلب ما يغنى مرتبط بقاموس انتهت فترة صلاحيته، ولم يستطع أن يتجاوز مفردات ليس فقط أغنيات عبد الحليم ولكن مفردات أغنيات صالح عبد الحي، وبعض ما نستمع إليه يخاصم ليس فقط الإبداع والإحساس ولكن المنطق، ويقدمون مجرد كلمات خالية من إحساس ومعاني الكلمات!! لم ينجح مشروع الرحبانية وفيروز فقط بالجملة الموسيقية، ولكن بالكلمة التي تقتحم مجالات أخرى وسماوات لم يصل إليها من قبل من سبقهم من الشعراء مثل أغنية «أنا وشادي» أو «ضي القناديل» التي كتبها ووزعها الأخوان رحباني لعبد الحليم، ووضع اللحن محمد عبد الوهاب، وعلى الرغم من ذلك فإن ما قدمه عبد الحليم حتى على مستوى الكلمة لا ينبغي أن نعتبره في كل أغانيه هو الأفضل دائما.. أنا لا أتفق مع حلمي بكر، على سبيل المثال، الذي يرى أنه إذا انتقد أحد عبد الحليم فسوف ترتد إليه الانتقادات من عشاق عبد الحليم.. المشكلة ليست في أن ننتقد عبد الحليم، ولكن في أن نعرف كيف ننتقده وتوقيت هذا الانتقاد، فأنا مثلا لا أستحسن أغنية «قوللي حاجة أي حاجة» رغم أنها من كلمات شاعر كبير هو حسين السيد وتلحين الموسيقار أستاذ الأجيال محمد عبد الوهاب، إلا أنني أعلم أنها أغنية موقف في فيلم «الخطايا» عندما حاول عبد الحليم أن يصالح نادية لطفي فقال لها «قوللي حاجة أي حاجة».. ولهذا لا أنتقد الأغنية بمعزل عن خطها الدرامي، ولكني فقط لا أعتبرها من أغنيات عبد الحليم المفضلة.. مثلما تغني شادية أغنية تقول كلماتها «عجباني واحشته واحشته عجباني» الأغنية كتبها مصطفى عبد الرحمن ولحنها كمال الطويل، وكانت شادية تتغزل في إسماعيل يس في أحد الأفلام التي جمعتهما معا.. فكان يجب أن تقول له «عاجباني واحشته» وهي تتأمل ملامحه وشلاضيمه!! الفنان هو ابن شرعي لكل ما هو معاصر على مستوى الآلة وليس فقط المشاعر، ولهذا يلتصق أكثر مطربي هذا الجيل بأغنيات الفيديو كليب، تشعر وكأنها تحولت إلى موضة صنعت من أجلهم، الفيديو كليب في عمقه هو الإبهار الذي يعتمد على اللقطة السريعة والوهج الذي يبرق ثم ينطفئ، لكنه لا يمكث طويلا في الوجدان، ولهذا لا يتوقف مصنع إنتاج الفيديو كليب، ولا عيب في تلك الوسيلة سريعة الانتشار، ولكن الأهم هو كيف نوظفها لصالح العمل الفني!! دائما ما تخلق الآلة نجومها، ولهذا فإنه لولا السينما ما كان من الممكن أن يصبح لدينا مطربة مثل «ليلى مراد»، ولولا الميكروفون الحساس ما كان من الممكن أن ينجح عبد الحليم ونجاة، ولولا الفيديو كليب ما أصبح لدينا عمرو دياب، عاصي الحلاني، راغب علامة، مصطفى قمر، هشام عباس، تامر حسني، نانسي عجرم، إليسا، هيفاء، لكن هاني شاكر وعلي الحجار أو الحلو وصابر الرباعي وكاظم الساهر وحتى ما جاء بعدهم مثل مدحت صالح وإيمان البحر درويش وخالد عجاج وجودهم تجاوز الفيديو كليب، وبقاؤهم أبقى الكثير من تلك المعادلة التي فرضتها أغنيات الفيديو كليب، ولكن يبقى شيء مهم خارج عن إرادة الجميع وهو النجومية التي تولد مع الفنان أو الكاتب، وهي كاريزما خاصة لا تخضع لأي مقياس علمي.. النجومية تجدها في كل المجالات وليس فقط الفن والأدب.. مثلا الشيخ عبد الباسط عبد الصمد كان نجما بين قراء القرآن، بينما الشيخ محمود خليل الحصري شيخ المقرئين في العالم أجمع كان شيخا كبيرا وجليلا، لكنه ليس نجما!! على الرغم من ذلك فإن النجومية يجب أن يحافظ عليها الفنان بالقراءة والاطلاع على الثقافة العامة وعلى الحياة.. ومن خلال متابعتي للأحاديث القليلة التي تحتفظ بها الإذاعة والتلفزيون لعبد الحليم وتبثها في ذكراه أشعر أن عبد الحليم كان أكثر ثقافة ووعيا وإدراكا حتى ولو كانت ثقافته مجرد ثقافة سمعية، وهو ما يطلقون عليه حرامي ثقافة، أي أنه لا يقرأ كثيرا لكنه يستطيع أن يجمع كثيرا من خلال اقترابه من العمالقة كامل الشناوي ومصطفى أمين وإحسان عبد القدوس، ولكن عبد الحليم كان يمتلك موهبة الكلام حتى ولو كان كما وصفه كامل الشناوي يصدق إذا غنى ويكذب إذا تكلم، فهو قادر على الإقناع وعلى توجيه النقد بخفة ظل ودهاء.. مثلا عندما عاتبه فريد الأطرش لأنه قال عنه إنه في عمر أبيه قال له ضاحكا «ما تزعلش انت زي جدي..» وعندما أراد أن يقول رأيا سلبيا في هاني شاكر اكتفى بقوله: «ليس لديه طموح».
على الجانب الآخر عندما تقرأ أحاديث لعدد من مطربي هذا الجيل لا تتجاوز مفرداتهم كلمات «علي الحرام وعلي النعمة ورحمة أبويا وما تخليناش نقل أدبنا» هذه هي المفردات التي يستخدمونها في أحاديثهم، وذلك لأننا بصدد فنانين غالبا معزولين عن شبابيك الثقافة الحقيقية لا تجده في دائرة كبار الكتاب والمفكرين، ولا تشعر أنه قرأ حتى ديوان شعر لنزار قباني أو السياب أو أدونيس أو فاروق جويدة أو قرأ رواية لنجيب محفوظ أو يوسف إدريس أو حنا مينا!! كان عبد الحليم حافظ قادرا على تسويق فنه، بينما لا يترك الآخرون فرصة إلا ويعملون على - تسويء - أنفسهم!!