وردة وبليغ... سيرة الحب
وردة... أبجدية بليغ الخاصة جدا في الحب، صياغة أخرى للعشق، قصيدة مكتوبة بماء الورد، جملة موسيقية لم تتكرر.
هي «طلّة القمر» كما رآها وظل يراها، حلمه القديم المغسول بحبات الندى، دهشة الأطفال الأولى، الوردة التي أهدتها له السماء.
معها تلهث مفرداته ولا تنتهي أحلامه.
هي من شكّل طعم أيامه، داعبت أحلامه... أكثر من احتوت لحظات جنونه لتتحول إلى أعذب الألحان... وهو ساعدها كي تنسى واقعاً زيّف كثيراً من إرادتها، أزال الفواصل والفوارغ وكل ما علق بروحها من آلام، أسكنها المألوف من الحكايا الساحرة و...أهداها الحلم.
بليغ ووردة حلقة جديدة في مسلسل ثنائيات العشق... «اتنين عاشقين... تايهين مش حاسين العمر ثواني ولاّ سنين»، « عايشين لليل والحب وبس».
قبلها كان بليغ «بيخاف من الحب وسيرة الحب وظلم الحب لكل أصحابه»، كان يعرف «حكايات مليانة آهات ودموع وأنين»، لكنه كان يدرك أيضا أن «العاشقين ذابوا ما تابوا».
عنها يقول بليغ: «وردة هي حبيبتي قبل أن تكون زوجتي، توأم روحي قبل أن تكون شريكة حياتي».
أما هي فقالت:
قد اللي فات من عمري بحبك
وقد اللي جاي من عمري بحبك
قبل أن تلتقي عيونهما ويستشعرا «حلاوة سلام أول لقاء» التقيا بالروح وتآلفا.
داعب صوتها وجدانه قبل أن تسكنه عيونها «السود»، فلقد جاءه الأصدقاء، الذين يدركون بحثه الدائم عن كل موهبة جديدة صادقة ومعبرة، بأسطوانات لها وهي تشدو «يا ظالمني» لكوكب الشرق أم كلثوم وغيرها من الأغنيات المتداولة في تلك الأثناء، فسحره الصوت وظل يتابعه عن بعد بشغف.
السيناريو نفسه كان على الجانب الآخر، وصلتها أنباء الانقلاب الفني الذي أحدثه بليغ في الموسيقى والأغنيات فسكنتها الألحان، أذهلتها، أبهرتها كما الأطفال أمام الألعاب النارية.
غير أن القدر الذي كان له مع بليغ صولات وجولات، اختصر المسافة بين الحلم والواقع، أطلق دوائر التواصل، منحها الضوء الأخضر. رشحت وردة لبطولة فيلم «ألمظ وعبده الحامولي» ومن ثم رشحه محمد حسن الشجاعي، رئيس الإذاعة آنذاك، لحلمي رفلة منتج الفيلم ومخرجه ليشارك بألحانه فيه، الغريب أن بليغ ورغم سابق معرفته بصوتها وإمكاناته إلا أنه اشترط أن يلتقيها قبل أن يوافق، فهل هو «شوق اللقاء»؟
صحيح أن الاستماع لأي صوت جديد وقبوله نفسياً وفنيا كانا شرطين لم يتنازل عنهما بليغ، بل كان يصرّ عليهما دوماً في كل تجاربه، مهما كانت الضغوط التي يمكن أن تمارس عليه، فمثلا في واقعة حكاها شقيقه د. مرسي أن السيدة جيهان السادات، زوجة رئيس الجمهورية آنذاك أنور السادات، أعربت عن رغبتها في أن يتبنى بليغ صوت ياسمين الخيام، إلا أن هذا الأخير هبّ في شقيقه الذي كلف بنقل الرسالة، بوصفه المتحدث الرسمي للرئاسة آنذاك، قائلا: «أنا ما ألحنش بالأمر» واشترط أن يستمع إلى صوتها أولا، فإذا نال إعجابه سيلبي الرجاء وليس «الأمر»، وقد كان، ما يشير إلى أنه يرفض دوماً أن يملي أحد شروطه عليه، فالفن كما يؤمن به بليغ لا يعترف بـ «الواسطة» ولا مجال للمجاملات فيه. غير أنه ومع وردة لم يكن ينفذ شرطا أو عهدا قطعه على نفسه فحسب، لكنه حتما كان مدفوعاً برغبة داخلية للتواصل واقعياً مع صوت سكنه بسحره وحميميته، وكان اللقاء الذي لم يشعل حماسة بليغ، في ما يبدو، نحو وردة المطربة فحسب، لكنه حرر العاشق في داخله وإن ألجمه «الخجل» كالمعتاد.
الحب كله حبيته فيك
الحب كله
وزماني كله أنا عشته ليك
زماني كله
اسقيني تاني من الحب
منك
من نور زماني
اسقيني ياللي من يوم ما شفتك
حسيت كإني اتخلقت تاني
في الحلقات التي كتبها الكاتب والصحافي فوميل لبيب عن بليغ ونشرتها مجلة «الشبكة» اللبنانية في أبريل عام 1984، أكد أن الحب بين وردة وبليغ ولد مع أول لقاء، من أول تلامس واقعي بينهما حينما تساقطت الدموع من عين بليغ وهو يستمع إليها تغني له «بحبك فوق ما تتصور»، إحدى أغنيات الفيلم، لتبادله وردة الإحساس والدموع أيضا التي انهمرت من عينيها، ما يشير إلى أن سهم كيوبيد كان قد استقر في قلبيهما، ما دفع حميدو، شقيق وردة الذي كان يلازمها كظلها، إلى منع لحظات الاشتعال عبر جفاء المعاملة لبليغ تارة وتهديده بـ «الويل والثبور» تارة أخرى، حتى وصل الأمر، كما ذكر فوميل في حلقاته، إلى أن تطاول على بليغ وطرده من الاستديو، الأمر الذي فتح شهية النميمة والإشاعات، فحاول حميدو حسمها بتصريحه للصحافة بأن وردة لن تتزوج ولن تفكّر بالزواج قبل أن تحصل الجزائر على استقلالها وبعد أن تحيي حفلات النصر.
أضاف أنها لو تزوجت فلن تختار زوجاً من الوسط الفني مطلقاً، فلقد ثبت أن الزيجات الفنية هي أفشل الزيجات وعمرها قصير.
توقيت لحظة الاشتعال، كما رصدتها رواية فوميل، أكدها رفاق الرحلة في مشوار بليغ الفني والإنساني، ما ينفي تماماً ما ذكرته وردة في أحد حواراتها الصحافية من أنها اشتبكت في خناقة حامية الوطيس مع بليغ حمدي في منزل الموسيقار الكبير رياض السنباطي، الذي تحمس لصوتها وقرر أن يتبناها فنياً، إذ شعرت بأنه شاب مغرور بعد النقاش الذي تصاعدت حدته بينهما فلم «تستظرفه» وهو كذلك، فكرهته وخرجت غاضبة لا تريد أن تراه مرة أخرى، لكنها لم تكن تتخيل أبداً أنه سيأتي الزمن الذي ترتبط به فنياً بل زوجيا أيضاً.
يخالف هذا الكلام الواقع تماماً، لأنه في أول وجود فني لوردة في مصر غنت لبليغ الأغنيات التي تضمنها فيلم «ألمظ وعبده الحامولي» الذي أخرجه حلمي رفلة، وإذا لم يكن بإمكانها رفض ألحانه آنذاك، فلمَ وافقت لاحقاً على أن يلّحن لها أغنيات عيد الاستقلال في الجزائر التي أعادتها إلى الأضواء مجدداً بعد اعتزالها سنوات عشر بسبب زواجها من أحد ضباط ثورة التحرير في الجزائر وتفرغها لرعاية ولديها منه وداد ورياض.
ثم بعد انفصالها وعودتها إلى هوليوود الشرق لتستأنف وصل ما انقطع في مشوارها الفني اتصلت ببليغ وطلبت منه أن يجهز لها أكثر من لحن، كان من بينها «والله زمان يا مصر» الذي شاركت فيه في الاحتفال السنوي بعيد ميلاد إذاعة صوت العرب، وأغنية «قد العيون السود» التي لم تنجح عبرها وردة في استعادة مكانتها بقوة على خريطة الغناء فحسب، لكنها تأكدت من خلالها وبما لايدع مجالا للشك أن «وهج الحب» أو «قبس النور» ما زال مشتعلا في قلب بليغ ووجدانه بدليل اختياره لهذه الكلمات تحديداً لتكون رسالته أو رسوله في التعبير عن الكامن في جوارحه منذ سنوات، تحكي لها عن «ليالي البعد» وكيف مرّت به وأن حبه فيها «كان بيكبر كل ليلة وأكتر» و...
وعملت إيه فينا السنين
فرقتنا لا
غيرتنا لا
ولا دوبت فينا الحنين
لا الزمان
ولا المكان
قدروا يخلوا حبنا... حبنا ده يبقى كان
وبحبك والله بحبك والله والله والله بحبك
قد العيون السود بحبك
قد أغاني الصبر بحبك
قد اللي فات من عمري بحبك
قد اللي جاي من عمري بحبك
وشوف قد إيه شوف قد إيه بحبك
كان الارتباط بينهما حتميا، ليس حسماً للإشاعات التي طاردتهما طويلا فحسب، لكن لأنه «مقسوم لنا نرجع نقابل بعضنا»، كما لم يعد من العمر ما يمكن إضاعته «شوف كام سنة من عمرنا... ضاعوا مننا» و...
آه لو قابلتك من زمان
كانت حياتي اتغيرت
ولا كان جرى كل اللي كان
بالتأكيد لم تكن صدفة هذه الاختيارات من قبل بليغ لما تشدو به وردة قبل ارتباطهما، ما يشير مجدداً إلى إشكالية الخجل التي كانت تعيقه حتماً ودوماً عن مد جسور التواصل، لذا ابتدع طرقاً مختلفة للتعبير عما في داخله من مشاعر، وسائط ووسائل مختلفة تحمل «بصمة بليغية»، فمثلا وكما تعترف وردة كان يرسل إليها يومياً، على مدى سنوات زواجهما السبع، باقة من الورود تحكي وتؤكد لها أنها الحب الحقيقي، وهي كذلك بالفعل، فبليغ، وفقاً لطبيعته التي يعرفها كل من اقترب منه، كان كائناً لا يمكن تطويقه برباط الزواج، بوصف أدق لم يخلق للزواج، فهو يظل سعيداً، مرحاً، منتجاً طالما هو متحرر من كل القيود وفي مقدمها رباط الزواج. صحيح أنه كان عاشقاً متيماً أو وفقاً لوصف حليم «بيحب في الليلة 3 مرات» لكنه «بيتخنق» إذا ما طوّق بهذا الرابط، بدليل فشل زواجه الأول الذي سبق زواجه من وردة بسنوات طويلة، ورغم حبه لهذه الفتاة «أمينة» التي تزوجها «وش الفجر» بعدما ألحّ عليه الخاطر ولم يعد قادراً على تحمّل نار الشوق، كما يؤكد شقيقه د. مرسي سعد الدين، لم يستمرّ زواجه أكثر من شهرين، وعندما استأنفا الزواج لم يستمر أكثر من عام، حينها علّق بليغ على فشله قائلا: «اكتشفت أنني لا أستطيع أن أكون زوجاً... كنت أختنق كل يوم».
في كتاب أيمن الحكيم عن سيرة بليغ ورد أن هذا الأخير قال رداً على سؤال للمبدع عبد الرحمن الخميسي إذن لم تزوجت؟ «لأنني كنت أظن أن الزواج شيء مختلف، لكن شعوري بأن هناك في بيتي كائناً حياً ينتظرني، يقطع عليَّ استغراقاتي الفنية ويجذبني من كل أفكاري ويقيدني»...
فكيف نجحت وردة في تطويقه 7 سنوات كاملة كان فيها الأكثر إنتاجاً وإبداعاً؟ المؤكد أن الحب وحده هو كلمة السر التي دفعت بهذا «التلقائي»، «الفوضوي» وغيرهما من التوصيفات التي جاءت على لسان وردة والأصدقاء إلى الدخول بإرادته هذا القفص، دونما عثرات تحول دون مواصلة الإبداع.
يحكي الخميسي عن واقعة تشير إلى حجم هذا الحب قائلا: «في أحد الأيام زارني بليغ حمدي وكان متجهّما وطلب مني مبلغاً من المال لم يكن في حوزتي، فهمت منه أنه يريده لشراء هدية لوردة بمناسبة عيد ميلادها، عبثا حاولنا تدبير المبلغ لكننا فشلنا فاقترحت عليه أن نصنع أغنية عن الأفراح بوصفها المناسبة الأكثر انتشاراً، بالفعل كتبت أغنية «ما تزوقيني يا ماما» فتحمس بليغ لتلحينها بعدما أعجبه الكلام وفور أن انتهينا منها اتصلنا بالفنانة مها صبري التي أعجبتها بالطبع وقررت أن تغنيها على الفور، ليحصل بليغ في اليوم نفسه على أضعاف المبلغ الذي كان يحتاجه من أجل هدية وردة».
خايفة من بكرة... واللي هيجرى...
لما تروح...
وتغيب سنة... وتفوت هنا...
حبيب مجروح...
وخليك هنا خليك...
بلاش تفارق...
فلماذا وقع الانفصال رغم كل هذا الحب؟
عبّرت وردة، في كثير من أحاديثها، عن شدة ارتباطها ببليغ، مؤكدة أنه كان يعني لها الكثير، يضاف إلى ذلك، كما يرى المتخصصون، أن ألحان بليغ التي قدمها لوردة تمثل التاريخ الحقيقي لها كفنانة وكمطربة، وهو ما اعترفت به وردة قائلة: «بليغ كان «بيفصل» لي الألحان».
أما بليغ فاعترف عقب انفصاله عن وردة، قائلا: «خرجت من تجربة طلاقي من وردة بأن الإنسان أحيانا يكون عنيداً مع نفسه من دون داع أو تفكير».
قد يرى البعض أن العند كان سبباً، ربما، لكن وفقا للمتداول من إشاعات في الوسط الفني حينذاك، فإن علاقته بالمطربة ميادة الحناوي تحديداً، ومن قبلها مطربات أخريات اكتشفهن بليغ، كانت سبباً أكيداً وراء الانفصال، بتعبير أدق دمرت غيرة وردة كامرأة وزوجة حياتهما وأفسدت علاقتها بمن امتلك يوماً قلبها وهو ما اعترفت به وردة في أحد حواراتها قائلة: «لا يوجد حب من دون غيرة، أنا اتعذبت وكوتني نار الغيرة والشك».
كان يا ما كان... الحب مالي بيتنا... ومدوبنا الحنان
زارنا الزمان... سرق منا فرحتنا... والراحة والأمان
حبيبي كان هنا... مالي الدنيا عليَّّ... بالحب والهنا
حبيبي يا أنا... يا أغلى من عينيَّ... بالحب والهنا
حبيبي يا أنا... يا أغلى من عينيَّ.. نسيت مين أنا
أنا الحب اللي كان... اللي نسيته قوام... ومن قبل الأوان
هكذا حاول بليغ أن يرقق قلب وردته والغريب عبر صوت ميادة الحناوي، التي تردد أنها كانت سبباً لهذا الانفصال، حتى أن البعض راح يؤكد أن إبعاد ميادة عن مصر لأكثر من 13 عاماً كان بسبب «جهات عليا» تدخلت لصالح وردة، فيما كشف وزير الداخلية الأسبق النبوي إسماعيل في حواره مع الإعلامية هالة سرحان أن نهلة القدسي زوجة محمد عبد الوهاب هي التي تدخلت لترحيل ميادة عن مصر بعدما اكتشفت أو بالأحرى تأكدت من «هيام» عبد الوهاب بميادة، فراحت تطلب العون وهو ما تحقق لها، ما يسقط التهمة عن وردة على الرغم من أن البعض وفي مقدمهم ميادة يؤكد بما لايدع مجالا للشك أنها تعرضت لمؤامرة نسائية اتحدت فيها وردة مع نهلة.
بعيداً عن تعدّد الروايات في تلك الإشكالية نجح بليغ في الاحتفاظ بوردة الصديقة بعدما فشل في الحفاظ عليها كزوجة، بدليل أنها غنت له بعد 8 سنوات من انفصالهما «بودعك « بعدما أسمعها اللحن عبر الهاتف من منفاه في فرنسا، فوافقت وردة على أدائه رغم ترددها في البداية، مجددا تؤكد كلمات الأغنية أنه مازال عاشقا محباً.
تقول وردة : «كان حبل الوصال بيننا متصلا فنيا وإنسانيا أيضا، مثلا فوجئت ذات يوم ببليغ يرسل لي من منفاه في لندن، كان يتنقل بين باريس ولندن، أغنية مهداة إلى حفيدتي دلال تقول:
سنة سنة حلوة يا دلال
يا بنت بنت الغالية
وبنت بنتي وداد