**أم كلثوم وأنا... إنت فين والحب فين
واقع أم خيال؟ أرقه السؤال لأيام عدة، لم يفهم هل كان حقاً يشتاق الى صوتها الى حدّ يرن في أذنه في اللحظة نفسها، فيبدو كأنه يسمعها فعلاً؟ أم أنه فحسب الاشتياق الى زمن ولّى ولم يعد موجوداً إلا في أفلام الأبيض والأسود.
لعله الحنين الى إبداعات ملأت الدنيا ذات يوم بعدما بات النغم عصياً، ارتاح لهذا الاعتقاد وقرر أن يغلق كتب الألغاز التي حاصرته فجأة، انطلق مع صوتها كحمامة في الفضاء الرحب متجاوزاً الزمن، تجمد باللحظة وأغلقها على «حسها» وملأ بأغنياتها فراغات الحياة، استعاد عبرها لحظات توهّج لم تعد متداولة على أرض الواقع.
تنهّد بأسى: «من منا لا يتمنى حباً ينسيه آلاف الأحزان؟».
يا دنيا حبي وحبي وحبي ده العمر هو الحب وبس
واسقيني واملأ واسقيني تاني
من الحب
منك
من نور زماني
اسقيني ياللي من يوم ما شفتك
حسيت كإني اتخلقت تاني
حسيت كإني اتخلقت تاني
أم كلثوم كما يراها بليغ ليست مجرد صوت شجي «أطربنا» ولكنها رسمت بحنجرتها ملامح أيامنا، أفراحنا وأحزاننا. هي ذكرياتنا المطمورة في أصداف البحر، قصيدة شعر لم تكتب بعد، قصص الحب التي عشناها والتي لم نعشها، نسمة ندية في صيف شديد الحرارة، ولحظة دفء في ليل آخر شتوي الأجواء.
أمامها نحترف الإصغاء، تسقط أمام عرشها مجمل الحدود والفواصل. أنا عربي فحسب.
هي «طعم البيوت ولمة العيلة» في الخميس الأول من كل شهر، وتفاصيل أخرى كثيرة لم تعد حاضرة إلا في وجدان البعض وذاكرته.
يقول بليغ: «أم كلثوم هي هرم الفن الشامخ عبرها عرفني العالم العربي كله، للفن لديها قدسية شديدة الخصوصية، اهتمامها بفنها يفوق اهتمام أي مطربة أخرى بخمسين مرة، ولو أن كل مطربة جديدة فهمت ذلك وأعطت فنها ربع الاهتمام الذي كانت أم كلثوم تمنحه لفنها فسيكون لدينا ما لا يقل عن عشر مطربات جديرات بالاستماع إليهن».
انت ما بينك وبين الحب دنيا
دنيا ما تطولها ولا حتى بخيالك
أما نفس الحب عندي حاجة تانية
حاجة أغلى من حياتي ومن جمالك
انت فين والحب فين
ظالمه ليه دايما معاك
ده انت لو حبيت يومين
كان هواك خلاك ملاك
ليه بتتجنى كده على الحب ليه
انت عارف قبله معنى الحب إيه
لا مجال لصناعة الحلم، النجاح الوحيد هو أن تضبط إيقاعك وتحرص على ألا «تضغط على بنزين أعصابك فتحترق» أو «تنتشي بالسرعة فتصطدم». «نصيحة، لا تداعب الحلم، فتلك رفاهية ليست متاحة لك الآن».
ابتسم بليغ وهو يتذكر تلك «النصيحة» التي مررها له البعض من «أساطين التلحين» في الجلسة التي جمعته بهم في أوائل الستينيات من القرن الماضي، حين مدّ خط الأحلام لمنتهاه وأعرب عن رغبته في أن تغني له «الست» يوما ما، تذكر كيف نصحوه بسخرية «ألا يعيش في الأحلام ولا يبيع واقعاً كي يشتري حلماً، ثم يكتشف أنه ليس إلا وهما وسرابا».
تذكّر بليغ كيف ظلت مرارة الجلسة عالقة بذاكرته لشهور طويلة ولولا إيمانه الراسخ بأنه لا أفق من دون حلم ورؤية ترصده وتجتازه، لما نجح في التوازن ومن ثم التجاوز.
كالعادة تعامل بليغ بنبل وشاعرية مع هزائمه النفسية والاجتماعية، فقد كان مؤمناً بأن الأحلام هي الشيء الوحيد المتبقي داخلنا مهما تحدثنا بواقعية، بسخرية، أو بمرارة من واقع الهزائم اليومية، صوت هامس في الخلفية كان يدعوه دوماً الى التمسك بالحلم.
«دوما نحتاج للإيمان بشيء ما». هكذا حسم جدله الداخلي آنذاك قبل أن يهديه القدر «الحلم» بالفعل.
يقول بليغ: «كل مرحلة في حياتي كانت مش مترتبة، القدر كان دايماً بيقول كلمته في كتير من المواقف، حتى لقائي الأول عام 1962 بالست أم كلثوم لم يكن إلا «بتصاريف القدر»، فأغنية «حب إيه» لحِّن مذهبها قبل أن ألتقي بها بأكثر من عامين، وكنا نضحك أنا ومؤلفها عبد الوهاب محمد ونحن نفكر حنعمل فيها إيه ومن سيغنيها، ثم نقرر أن نتركها للظروف».
ويحكي بليغ كيف كان لقاؤه بالحلم قائلاً: «في إحدى الأمسيات اصطحبني الفنان الراحل محمد فوزي والذي كانت تربطني به صداقة كبيرة الى سهرة في بيت د. زكي سويدان، أحد أمهر الأطباء في تلك الأثناء وكانت على رأس المدعوين السيدة أم كلثوم والتي كان يجمعه بها صداقة كبيرة، وفي الحفلة قدمني فوزي للست، مؤكداً لها أنها ستستمع لملحن «هايل» وطلب مني أن أغني لها من ألحاني، وبالفعل احتضنت عودي وبدأت في الغناء ولا أعرف حتى الآن لماذا ألهمني الله لأغني مذهب أغنية «حب إيه» على رغم أنه لم يكن ببالي حين ذهبت الى الحفلة».
يواصل بليغ: «بمجرد أن انتهيت من الغناء، حتى فوجئت بأم كلثوم تجلس على الأرض إلى جواري وسط ذهول الجميع، ثم طلبت مني أن أمرّ عليها في اليوم التالي، وعندما ذهبت إليها طلبت أن تسمع الأغنية كاملة واتصلتُ بمؤلفها عبد الوهاب محمد بناء على طلبها والذي بدوره لم يصدق نفسه حتى رآها تشدو بها على المسرح، حينها فحسب صدق أن الحلم تحول الى حقيقة.
وقابلتك انت لقيتك بتغير كل حياتي
ما أعرفش إزاي حبيتك
ما أعرفش إزاي يا حياتي
من همسة حب لقيتني باحب
لقيتني بحب وأدوب في الحب
وصبح وليل على بابه
المؤكد أن بليغ وأم كلثوم كلاهما كان ينتظر الآخر، كذلك أضاف أحدهما الى الآخر، فعبرها وسّع بليغ من دائرة انتشاره وجماهيريته، ووضع اسمه إلى جوار عمالقة سبقوه للتعامل مع الحنجرة الذهبية حتى أنه سبق موسيقار الأجيال في التعاون معها، إذ كان أصغر ملحن تتعامل معه «ثومة».
بدورها، كانت أم كلثوم بحاجة الى ميلاد جديد، لتوسيع دائرة التواصل مع نوعيات أخرى من الجمهور، بتعبير أدق كانت بحاجة الى تجديد شبابها، وهو ما تحقق فعلاً عبر ألحان بليغ، فهذه الأغنية وما تلاها من تعاون بينهما منحت كوكب الشرق حضوراً مختلفاً، إذ طرقت أبواب الشباب بالإيقاع الراقص أحياناً، المثير للشجن دائماً. كذلك كان بليغ صاحب الفضل في إدخال آلات حديثة على «تخت» الست مثل «الساكس» و»الأكورديون» والإيقاعات، وفي إقناع كوكب الشرق باستخدام الكورال داخل دراما النص كما جاء في أغنيتها «حكم علينا الهوى»، ما أضاف الى أغانيها عموماً مذاقاً آخر كانت حتماً تحتاجه ولولا بليغ لم يكن سيتحقق، ما يؤكد أنهما كانا في انتظار الفرصة للقاء، ويشير هذا أيضاً الى عظمة هذه الموهبة القادرة دوماً على تطوير أدواتها، كانت قابلة للتطوير والتجديد بعكس غيرها من نجوم الغناء لذا تربعت دوماً على القمة.
يقول د. مرسي سعد الدين في حواره مع «المصري اليوم»: «أعتقد أن ألحان بليغ كانت نقطة مهمة في حياة أم كلثوم، لأن تلك الألحان غيّرت من جمهورها وجعلت من الشباب مستمعاً جديداً لها، بعد أن كان «سميعة» أم كلثوم من طبقة «أصحاب الطرابيش»، كما أن بليغ أضاف آلات موسيقية جديدة لتخت أم كلثوم مثل «الساكس فون» والأوركسترا الكبيرة، وكان ذلك بمثابة التحدي لها ولبليغ».
ما ذكره سعد أكده بليغ قائلاً: «لم تكن أم كلثوم متزمتة بل كانت تقبل الجديد الذي تشعر أنه سيضيف الى فنها، فمثلاً في أغنية «سيرة الحب» فكرت في الاستعانة بآلة «الأوكرديون» وأحضرت بالفعل فاروق سلامة وجعلته يحفظ «الصولو» الخاص باللحن في بيتي، وفي يوم البروفة اصطحبته معي من دون سابق إنذار، وعندما سألتني ما الذي أتى به للبروفة طلبت منها أن تستمع إليه فإذا لم يعجبها يذهب ونلغي «الصولو»، غير أنها عندما استمعت له أعجبها وأبقت عليه، كذلك أدخلت الكورال في مقاطع ليست قصيرة وفي سابقة لم تشهدها أغنيات الست سابقاً، يضاف إليها الإيقاعات المركبة والتي كانت جديدة تماماً على ما تقدمه الست وعلى رغم استغرابها منه في البداية، إلا أنها عادت وتقبلته في نهاية الأمر بل وأبدت سعادتها به».
إزاي إزاي أوصف لك يا حبيبي إزاي
قبل ما أحبك كنت إزاي
كنت ولا إمبارح فكراه
ولا عندي بكره أستناه
ولا حتى يومي عايشاه
خدتني بالحب في غمضة عين
وريتني حلاوة الأيام فين
الإبداع لا يحتاج الى شرح أو ترجمة، بل الى إحساس فحسب، حتى المبدع ذاته لا يمكنه التكهّن متى ولا كيف يتوهج إحساسه، المؤكد أنها لحظة خاصة جداً خارج الحسابات والمنطق وكذلك التفهّم.
يقول بليغ: «الإبداع ليس عملية حسابية دي «مزيكا»، مولاتي المزيكا لما ترضى عني تزورني وتعطيني من نعيمها، ولما تغضب عليك لازم تستناها. المزيكا هي اللي بتختار عبيدها، ويا بخته اللي تجعله من عبيدها المقربين».
كان بليغ من أشدّ المخلصين لـ{مولاته» الموسيقى، لذا منحته مفاتيحها وأسرارها، كانت جمله الموسيقية خاصة ومميزة، تحمل جزءاً من تمرده وجنونه أيضاً.
يتذكر بليغ كيف أقنع كوكب الشرق بأن تتلو كلمات رائعته «بعيد عنك حياتي عذاب» وذلك قبل الدخول الى اللحن، وهو ما لم تتحمس له الست في بداية الأمر، واحتدم النقاش بينهما على هذا النحو في سابقة كانت هي الأولى والأخيرة، حتى كاد الأمر يصل الى طريق مسدود، إذ رفضت ثومة قائلة: «إيه الجنان ده!»،
فيما ازداد تصميم بليغ فتصاعدت مجدداً حدة التوتر بينهما، ما دفعها الى استشارة كل من تثق برأيهم إلى أن وافقت في النهاية.
يتنهد بليغ قبل أن يتمتم: «كانت سيدة رائعة، للفن لديها قدسية خاصة، تعلمت منها الكثير وفي مقدّمه بالطبع «قدسية المواعيد».
يضحك بليغ وهو يتذكر كيف نجحت هذه الفنانة في ترويضه خصوصاً في ما يتعلق بالمواعيد والتي باتت معها شيئاً مقدساً، وذلك بعدما تجرأ يوما و»ضرب» موعد البروفة وسافر إلى لبنان من دون علمها، وهو ما لم يجرؤ أحد على فعله ممن تعاملت معهم كوكب الشرق، غير أن محاولاته المستميتة لإرضائها نجحت «بعد عذاب» ليعلن بليغ توبته الشهيرة ويواصل بعدها احترامه لمواعيده معها حتى آخر تعاون بينهما في «حكم علينا الهوى».
حكم علينا الهوى نعشق سوا يا عين
واحنا اللي قبل الهوى شوف كنت فين وأنا فين
وآه يا ليلي آه ع الوعد والمقسوم
يا ليل يا عيني آه ع الوعد والمقسوم
لا تحوشه لا ولا آه ما بين عيون وقلوب
حكم علينا الهوى نعشق سوا وندوب
صدق اللي قال الهوى فوق الجبين مكتوب
السعد وعد يا عين والاسم نظرة عين
وأنا وأنت روح مغرمة كان حظها من السما
واتجمعوا القلبين
بين بليغ وست الكل أبجدية خاصة حتماً كانت أبعد من مجرد صوت توافر فيه كل ما كان يبحث عنه كملحن، وهو أيضاً لم يكن بالنسبة إليها مجرد مبدع أضاف الى بريقها مزيداً من التوهّج. جمعهما بالتأكيد تواصل من نوع خاص، فبالإضافة إلى موهبته التي آمنت بها ودعمتها بل راهنت عليها، كانت ترى فيه الإبن الذي لم تنجبه، ما يفسر لماذا كانت تناديه دوما «يا بني» ولماذا أوصت بعدم استنزاف موهبته بما لا يجدي كما اعترف بذلك صديقه الإعلامي وجدي الحكيم، أو لماذا كانت تتقبل نزواته الفنية بصدر رحب وقبول غريب تعجب له الجميع، فراح يعيد تشكيل حنجرتها بما يتوافق وطموحه الفني. والأعجب أنها كانت تتسامح عن بعض تجاوزاته في العمل على رغم أن الأخير لديها «قدس الأقداس» كما عُرف عنها. أخيراً وليس آخراً لماذا قبلت أن تؤدي دور «مرسال الغرام» بينه وبين وردته في نوبة خصام اعترضت طريقهما وهو ما كشف عنه محمد رشدي في الحوار الذي نشر في «الكواكب» في ذكرى رحيل بليغ الأولى قائلاً: «سافرت السيدة أم كلثوم الى الجزائر لإقامة بعض الحفلات هناك، وأيامها كانت وردة - زوجة بليغ
آنذاك موجودة هناك بعد خلاف حدث بينهما، فطلب بليغ من الست أن تغني في وصلتها الأولى أغنيته «بعيد عنك حياتي عذاب» وألح في طلبه، لم تفهم ولكنها قبلت في النهاية قبل أن تكتشف أنها أدت دور ساعي البريد بين بليغ العاشق لوردته، لم تعاتبه حتى بعد علمها بالأمر».
أما بليغ فكان يرى فيها أمه الروحية لذا كان يحرص على أن تتألق عملاً بعد الآخر، وعندما اشتد عليها المرض وكانت تسجل «حكم علينا الهوى» في أحد استوديوهات الإذاعة المصرية كان يوقف التسجيل بين الحين والآخر ليطمئن عليها ويطمئنها في الوقت نفسه على أن كل شيء يسير على ما يرام، بل إنه حرص في هذا اللحن على أن يتناسب مع إمكانات صوتها في تلك المرحلة من عمرها.
أنا وأنت ظلمنا الحب ظلمنا الحب بإيدينا
وجنينا عليه وجرحناه ما داب حوالينا
ما حدش كان عايز يكون أرحم من التاني
ولا يضحي عن التاني
وضاع الحب ضاع
ما بين عند قلب وقلب
ودلوقت لا أنا بنساه
ولا بتنساه ولا بتلقاه أنا وأنت
قد تمنحنا الذكرى فرصة لنعبر من مرحلة الى أخرى، نصل ما انقطع عبر الخاص والعام، وربما تعيدنا الى أشواق استثنائية ودموع لا تخلو أيضاً من استثناء نحتاجها كي نتمكن من الانتصار على قبح حياتنا، المؤكد أنها «لحظة نور» كما حرص بليغ على التعامل معها وهو يستعيد الشريط بداخله، بتعبير أدق لم يكن يبكي على الأطلال أو ينعي مجداً زائلاً، ولكنه كان يغزل منها ما يعيده الى ذاته وفنه في لحظة ارتباك اختلطت بها الرؤى والمفاهيم.
لم يكن يبحث عن «ذكرى» بقدر ما يستحضر «فكرة»، لا يستعيد صوراً عذبة بوصفها «الحقيقة البديلة»، الوهم الذي نسكنه بإرادتنا بغض النظر عن المسميات والتي دوماً تنتقي بعناية كي نحكم إغلاق الدائرة.
أدرك – ربما متأخراً– أن ثمة دوماً مسافة تفصل بين المشاهدة والرؤية، بين الإدراك والوعي، حتى عندما نتأهل للمعنى يظل إدراكه أصعب من قبوله، ولكن يبقى القبول به أكثر حكمة من الوقوف على عتبات الانبهار أو السقوط بشرك الأوهام.
تذكر بليغ كيف حررت نغماته «الثورية»، على حدّ توصيف البعض، قوالب موسيقية ظلت جامدة لسنوات، كيف كان «التحدي» هو الجسر الذي عبر عليه كي يصل الى القمة وتملأ ألحانه الدنيا.
ولم يعرف: هل طردته الحياة من حساباتها؟ أم ما زال بإمكانه الانتصار على واقع زيف كثيراً من إرادته؟.