ذكرى يتيمة مع بليغ حمدي.. عاشق الموسيقى ( حلقة 1 من 2 )
.. مع سويعات الصباح الباكر ، استيقظت على صوته الجَهوري يخاطبني قائلاً : " أبو حديد - هكذا اعتاد مخاطبتي - .. تعال معي إلى بلودان لأعَرِّفَك على .. بليغ حمدي " !! كان ذلك صوت الفهد – رحمه الله – ذات يوم من عام 1978 .
.. طوال الطريق من السويداء إلى دمشق .. كنتُ سارحاً بخيالي أداعبُ حلماً لطالما راودني ، وها هو قد أوشكَ أن يتحقق بعد ساعة لا أكثر .. وبلا شعور وجدتُ نفسي أرَدِّدُ مقاطع متفرقة من .. الحب كلُّه .. سيرة الحب .. حكم علينا الهوى .. ألف ليلة وليلة .. وغيرها من روائع جادت بها قريحة البليغ " بلبل " .. كما كان يناديه الفهد .
وصلنا بلودان .. و صافحتُ " البلبل" الأسمر وتأملته طويلا ً بقامته القصيرة وشعره الطويل الأشعث ، آثار نُدَبٍ على خَدَّيه وكأنها آثار " جُدَري قديم " .. يغطي فمه بكَفِّه عندما يضحك لإخفاء ما كان يلـون أسنانه من اسوداد لإفراطه في التدخين .. بجانبه جلست " ميَّادة الحناوي " المطربة الصاعدة آنذاك وشقيقها عثمان ، والمنتج " صبحي فرحات " .. ثم الفهد ، فالعبد لله ، أنا الفتى هاوي الموسيقا حتى الثمالة أجد نفسي فجأة أمام بوابة واحد من أعظم معاهد الفن العربي واسمه : " بليغ حمدي " ..
صمتٌ مُخَيمٌ على الحضور ، إلا صوت البلبل بليغ مع العود يشدو من خلال شريط مُسَجَّل أغنية " فاتت سنة " ، تلك الرائعة التي جمعت ميادة مع بليغ حمدي لأول مرة بجهود ذلك المنتج المعروف ، لتنضم ميادة الحناوي إلى كواكب استمَدَّت أضواءها من شمس بليغ حمدي ثم سطعت في سماء الأغنية العربية لعقود من السنين .
.. من بلودان باتجاهنا لدمشق .. كنا ثلاثة فقط ، البليغ والفهد والفتى الصغير – مُحَدِّثكم - .. أستمع إلى أحاديث شَيِّقة بين الصديقين الحميمين عن ذكرياتهما في القاهرة وبيروت أيام زمان .. وعن الفن بشؤونه وشجونه .. سيجارته لا تفارق شفتيه طوال الوقت .. يلتفت إليَّ بين الحين والآخر يُشركني الحديث تواضعاً منه وأدباً .
.. كنتُ في تلكَ الأيام أجاهد لتحقيق أمنيتي في السفر للخارج لدراسة الموسيقا ، في وقت واجهت الرفض القاطع من الأهل ومن الفهد بالذات ، وكانت له اعتباراته الخاصة في اعتراضه ، إلا أن الفرصة حانت له الآن لِيُعَزِّزَ معارضته لي بموقفٍ لبليغ حمدي شخصياً ، توقَّعتُ من الموسيقار أن يؤازرني و يقف إلى جانبي ويدعم موقفي بإقناع الفهد بالموافقة على رجائي المتكرر .. إلا أن صدمتي كانت أسبق عندما أشار بضرورة متابعتي لدراسة الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق أولاً ، ثم الالتفات للموسيقا ثانياً .. وربما ثالثاً !! صُعِقتُ لموقفه فجأة ، فتابع قائلاً : .. أنا يا عماد لم أدرس وأتخصص في الموسيقا أكاديمياً في إيطاليا لأشهر قليلة إلا بعد أن لحَّنتُ لأم كلثوم أول أغنية !! وقبل ذلك درستُ الحقوق ، وما اعمالي الموسيقية قبل أم كلثوم إلا نتاج اجتهادات شخصية لا غير !! لذلك : " .. خُذ السرتفيكا – شهادة الجامعة - الانكليزية بالأول .. وبعدين تبقى تعمل مَزِّيكاتي " ..
.. سَلَّمتُ أمري لله وأقفَلتُ فمي بعد موقفه ذاك الذي جاء كخاتمٍ بالشمع الأحمر ليقفل ملف مجاهداتي وللأبد للسفر ودراسة الموسيقا في الاتحاد السوفييتي .. آنذاك .
.. وعند منطقة الربوة ، تَرَجَّلنا وتوجهنا نحو مطعم شعبي ، بناء على طلبه ، حيث أشجار الصفصاف تظلل المكان ، وساقية يجري ماؤها بضحالة ، ومعه كانت تجري ذكرياته الحزينة مع زوجته السابقة " وردة الجزائرية " التي طَعَنَت يَدَ البليغ البيضاء المعطاءة ، وبدأت تنسحب تدريجياً من حياته بعد أن وصلت بجهوده ودعمه إلى ما كانت عليه من شهرة ومجد ومال ،، وانعدام ضمير ، وقلة وفاء ، وجحود لفضل موسيقار معطاء انتشلها من عالم النسيان في الجزائر – موطنها الأم - إلى دنيا الأضواء والإعلام والشهرة في القاهرة وعواصم العالم العربي ..
.. كان يتحدث عن ذكرياته معها والألم يعتصره .. ثم عاد إلينا من شروده ، وكأنه وجد شيئاً ، فسأل صديقه الفهد : " .. وإنتَ يا فهد ، مِراتك عملت فيك كِدَه ؟؟ فأجابه الفهد على الفور : أي واحدة منهـم يا خويا ؟؟
.. بعد الغذاء انتقلنا إلى الشقة الهادئة في منطقة الجسر الأبيض بدمشق .. نام الفهد على الفور بعد وجبة الغداء المُتخِمة ، أما الموسيقار الذي كان غداؤه خفيفاً ، فقد أسعدني جداً عندما طلب مني فنجاناً من القهوة ، وكانت فرصتي ذهبية للتحدث مع هَرَمٍ من أهرام الموسيقا العربية في القرن العشرين .
.. وعلى مدى أيامٍ ثلاثة متتالية كنتُ ألتقيه خلال البروفات مع الفرقة الموسيقية لإنجاز تلك الأغنية .. كان أستاذاً بلا مُنازع .. هادئا ً .. مُتَأملاً .. حالماً .. وفوضوِياً في الوقت نفسه .. أما كفنان ، فحديثي عنه سيكون كحديث نقطة عن مُجَلَّد .
.. لا زلتُ أتذكر تلك الأيام الثلاثة التي أمضيتها برفقته ، بكثير من الشعور بالفخر والاعتزاز أني قابلته واستمعت إلى آرائه الخاصة والعامة والممتعة والمفيدة لي كتلميذ مثلي كان ولا يزال يحبو على أعتاب علوم الموسيقا وغيرها من علوم الدنيا .
إن سمحتم لي ، قد أخصص الحلقة المقبلة للحديث عن " بليغ حمدي " الفنان الموسيقار بتسليط الممكن من الأضواء على خصوصياته الفنية وأهم محطاته مع مخضرمي الغناء العربي ، فإلى لقاء قريب بإذن الله .
بواسطة عماد بلان
المصدر --سويداء الوطن
ذكرى يتيمة مع بليغ حمدي .. عاشق الموسيقا ( حلقة 2 من 2 )
.. يسرني أن أتابع برفقتكم الأنيسة الحديث عن الموسيقار الراحل " بليغ حمدي " :
إنه " بليغ عبد الحميد حمدي سعد الدين مرسي " وُلِد في السابع من أكتوبر/ تشرين أول 1934 – ومصادر أخرى تقول عام 1932 – عشق الموسيقا منذ طفولته ، إلى جانب الغناء ونظم الشعر الشعبي ، أحَسَّ والده بموهبة ابنه فأهداه عوداً مُذ كان في العاشرة من عمره ، كان ميله الأقوى للغناء ، لذلك وافقت لجنة الاستماع في إذاعة القاهرة على تصنيفه مطرباً معتَمَداً لديها ، في وقت كان يرسل قصائده الشعبية للصحف بإسم مستعار وهو " ابن النيل " ، لكنه سرعان ما انسحب من عالم الغناء بهدوء لأنه – وباعترافه شخصياً – لا يملك المقومات الكفيلة لنجاحه وتفوقه في الغناء ، كما هو حاله في طاقاته الكامنة في التلحين والتأليف الموسيقي .
.. كان صعوده سريعاً و موفقاً ، ابتداء من أول لحنٍ له لفايدة كامل ، مروراً بعبد الحليم وشادية ونجاة ، إلا أن محطَّته المُمَيَّزة كانت مع زميليه المطرب الشعبي الراحل محمد رشدي والشاعر المخضرم عبد الرحمن الأبنودي ، ومن خلال ذلك الثلاثي الرائع برزت ملامح اللون التراثي الصعيدي المصري وانتشر على كل شفة ولسان في مختلف أنحاء الوطن العربي .
.. و ما إن بلغ السابعة والعشرين من العمر حتى ابتسم له القدر مع موافقة كوكب الشرق على غناء لحنٍ كان قد أعَدَّه واحتار في اختيار من ينشده له ، ويذكر البليغ الراحل أنه اجتمع صدفـة مع الملَحنَين كمال الطويل ومحمد الموجي ذات ليلة ، وكان هو أصغرهم سِنَّاً وأقلهم إنتاجاً وشهرة و .. نفوذاً ،، سأله الموجي : إلى أين تطمح يا بليغ في التلحين ؟ فأجابه : حالياً لدي .. حليم ونجاة وشادية و ــ .. فقاطعه الموجي ساخراً : أكمل يا بليغ ، قل و " الست " كمان – ويقصد أم كلثوم – و تابع الموجي كلامه الواعظ لبليغ : اسمعني جيداً يا بليغ ، قبل أن تفكر في التلحين لأم كلثوم عليك أن تستمع لألحاني أنا وكمال الطويل و تدرسها لعشر سنوات متواصلة وبعدها يحلها رب العالمين.
.. كلمات الموجــي كانت صدمة في نفس بليغ حمدي ، ولكنها شَحَذَت همته وشدَّت من أزره ، فلم يمضِ أشهر على تلك " الصدمة " حتى تَغَنت أم كلثوم بأول ألحانه .
.. تتميز ألحان بليغ حمدي بمعادلة غريبة ، سهلة وممتنعة في الوقت ذاته ، فهي غير مُتَشابهة وليست مُكَرَّرَة بجُمَلِها الموسيقية ، ولكنها تحمل بين نغماتها نكهة واحدة سرعان ما يدرك سامِعها الواعي أنها من مدرسة بليغ حمدي .
والمُدَقِّق في تفاصيل جـل ِّ أعماله يلاحظ قوة ارتباطها بالتراث المصري ، فهو يطير بأجنحة اللحن فوق سماء أثينا أو إسبانيا وإيطاليا ، ثم ينعطف فجأة إلى أسيوط أو سوهاج يستَمد منها شحنات الأصالة الشرقية . ولا يجد من حرجٍ في إدخال " المزمار الصعيدي " إلى جانب آلة " الساكسيفون " الغربي في أقوى وأطول مقدمات الأغاني التي كان يقدمها للحليم أو أم كلثوم أو غيرهما .
.. ويُحسَب لبليغ حمدي فضله في التركيز على مزج أو استحداث " ضروب " – إيقاعات - كانت نتيجتها أن أضاف إلى قائمة الإيقاعات العربية المُستَخدَمة أنواعَ جديدة ، فمثلاً : في مقدمة أغنية " حاول تفتكرني " للحليم ، استخدم إيقاعاً مغربياً لأول مرة في وقت كان يمكنه الاستعاضة عنه بآخر مألوف للجماهير . ثم أنه استحدث إيقاعاً من وزن 13\10 ( فالس + سماعي ثقيل ) وذلك في مقدمة لحنه لأغنية " الحب كله " لأم كلثوم ، أما إيقاع " رقصة الحصان " والمشهور صعيدياً ، فقد كان العلامة المُسجلة التي لا تفارق ألحانه في غالبية أعماله .
.. وفي خطوة غير مسبوقة ، تمكن من إقناع أم كلثوم بإدخال مقاطع ليست بالقصيرة من أداء مجموعات الكورال في أغنيتها " حكم علينا الهوى " ، ثم غامر أكثر عندما استعاض عن آلات الإيقاع التقليديــة المعروفة بأصوات بشرية للكورال لأداء أطقم إيقاعية من وزن " دُم تاااك .. دُم تاك " ثنائية الوزن ، وذلك في لحنه لورة الجزائرية : " بَوَدَّعَك " .
.. قَدَّم الراحل العظيم ألحاناً لأم كلثوم ، عبد الحليم ، وردة ، نجاة ، شادية ، فهد بلان ، صباح ، محمد رشدي ، محمد العزبي ، وديع الصافي ، فايدة كامل ، ميادة الحناوي ، وغيرهم من مشاهير وشهيرات الأغنية العربية . كما لحَّن عدة أعمال مسرحية وسينمائية،ومقدمات لمسلسلات تلفزيونية .
.. محطة حزينة مَرَّ بها في حياته ، عندما غادر موطنه مصر مُـجبَراً .. مصر التي كان يعشق ترابها وأهلها ، هرب منها بسبب قضية الفتاة المغربية التي عُثِر عليها مقتولة بجانب شقته في القاهرة في أوائل الثمانينيات ، فكان لِزاماً عليه الغياب خارج وطنه لسنوات خمس ، أمضاها في باريس على نفقة أحد الأثرياء ، ريثما يتقادم الحكم القضائي ضده وتسقط آثاره القانونية . وخلال إقامته تلك في باريس ، يذكر الموسيقار البليغ هذه القصة البليغة :
.. من قلب باريس كان مُتَّجهاً مع صديقه بالسيارة إلى منطقة ريفية نائية ، الطريق مزدحماً بسبب نقطة تفتيش أمنية أقيمت إثر حادث إرهابي غامض ، كان رجال الأمن يدققون في هويَّات المارة وعابري الطريق ، أحسَّ البليغ بالضيق والإحراج ، فقد نسي كافة أوراقه الثبوتية في شـقَّتـه إلا من بطاقة انتسابه كـعضو في جمعية المؤلفين والملحنين العالمية ، قَدَّمها بيده المُرتَجِفة خوفاً من رفضها من قبل الضابط الذي ما إن طالع تلك البطاقة حتــى فاجأه بتحية شبه عسكرية ، وأمر عناصره بفتح طريق استثنائي ليعبر الموسيقار دون إعاقة ، لأنه – كما وصفه الضابط : فَنَّان .. وللفنان عندهم مكانة لا يحلم بها إنسان ..
.. ما استطاع الموسيقار حَبس دموعٍ تساقطت من عينيه تأثراً عندما قارن حفاوة ضابط فرنسي وتكريمه له لأنه فنَّان .. عرفه من خلال البطاقة فقط !! .. في وقت أصدر " ضابط " مصري حكمه بالسجن ضد فنان مصري عظيم وهب بلاده شبابه وحياته ورفع إسمها عالياً خفاقاً على أنغام أناشيد وطنية لا زالت راسخة في قلوبنا و عقولنا .
.. يطول الحديث ويطول عن الموسيقار الراحل بليغ حمدي بما لا تتسع له صفحات مُجَلَّدات ، ولكنها محطَّات مُتفَرِّقة من رحلة حياته المعطاءة والتي انتهت إلى رحمة الله تعالى في 17 أيلول 1993 عن عمر يناهز 61 عاماً .
.. آخــر أحلــى خبـــر : المــدعــو " صلاح الشرنوبي " مُلحن كمـا أســمع ، و صــاحب " مدجَنــة الشَـرنَـبَــة " لتفقيس الزغاليل و الفــراخ سنوياً من " مطربين ومطربات – كما يصفــون أنفسهم " .. ذلك الشرنوبي العَتيــد صَـــرَّح في"مؤتمر صحفي" مؤخراً بأن ألحانه لوردة الجزائرية تفوق بجودتها ألحان بليغ حمدي لها !! .. لا أدري .. لَعَلَّ ألحانـــه .. بصـفاريـــن ؟!!.. أرزاق يا دنيا .
بواسطة عماد بلان
المصدر --سويداء الوطن