محمد خير يكتب: وردة وبليغ قسمة اتقدرت
منذ عرضه الناجح في عام 1962 وحتي اليوم، حظي فيلم «ألمظ وعبده الحامولي» للمخرج حلمي رفله، باعجاب الجمهور الذي حفظ اغنياته حتي الان، من دون ان يكترث احد -سوي بعض النقاد- بحقيقه مدهشه، هي ان الفيلم الذي يدور حول شخصيتين حقيقيتين تاريخيتين، لم يقدم اي اغنيه حقيقيه لالمظ او الحامولي! تم التجاوز عن هذه الحقيقه ببساطه امام التحفه الغنائيه التي تازر لصنعها اساطين الموسيقي، عبد الوهاب وكمال الطويل والموجي وفريد الاطرش وبليغ حمدي. الي ذلك الفيلم، وذلك المنطق، وذلك الزمان، تنتمي وردة الجزائرية.
لقد صحّ اذن الخبر الذي تمني كل من سمعه ان يكون مجرد شائعه اخري من شائعات «فيسبوك»، رحلت ورده الطرب العربي، اميره الغناء الجزائريه التي لم تعش في الجزائر سوي اقل عدد من السنين، وربما لهذا اوصت بان تواري الثري في البلاد التي حملت اسمها طوال العمر، لم يكن في مصر «ورده» اخري لتضطر «ورده محمد الفتوكي» ان تميز نفسها بلقبها الوطني، وان قيل ان مطربه سوريه كانت تحمل الاسم نفسه، لكن الجزائريه علي اي حال ظلت تعتز بوطن نشات بعيدا عنه، في باريس -عاصمه الاحتلال- ولدت 1939، لاب جزائري وام لبنانيه، هناك نطقت العربية وتعرفت علي الموسيقي، طالما تغنّت في ما بعد بتصاريف الاقدار، وقد جاءت بها قدرُها الي مصر لتعرف الشهره ثم الحب وصولا الي وداع تلو اخر، وقد غنّت ذلك كله وربما كانت اجمل من غنّاه.
ما سر ورده؟ ربما كان اجتماع قوه الصوت الهائله، مع انوثته المفعمه، فضلا عن مخارج الفاظ اوضح مما امتلكته اي بطله مسرحيه، «كالحصان الجامح» هكذا وصف عبد الوهاب صوتها، مضيفا انه يحتاج الي الترويض، ويبدو ان تلك كانت مهمه بليغ حمدي، او بالاحري مهمه الحب.
«قبل بليغ وبعده»، هكذا يمكن وصف مشوارها او مراحلها الثلاث، جموح الصوت تجلي في شبابها الاول وبدت نبرته العاليه في «وطني الاكبر» من كلمات احمد شفيق كامل، ولحن عبد الوهاب: «لو نستشهد كلنا فيك، صخر جبالنا راح يحاربهم»، انه الاوبريت الذي طالما فخرت بانها غنت فيه بطلب من عبد الناصر شخصيا، لم تكن قد تخطت التاسعه عشر انذاك، بعدها تبدو اكثر تحكما في صوتها خلال اوبريت «الجيل الصاعد» 1960، علي الرغم من ان مقطعها الاعلي نبره كان يتغني بالجندي العربي «عنوان النصر الثوري في كل بلد احرار»، يواصل الصوت جموحه العفيّ بعد ذلك بعامين في اغنيات «المظ»، وعلي الرغم من محاوله عبد الوهاب تهدئه العنفوان في «اسال دموع عينيا» من كلمات صالح جودت، فانه يعلو مجددا في «نخلتين في العلالي» من الحان بليغ حمدي، ربما لان الاغنيه القادمه من عالم الفولكلور كانت اعلانا من المظ -في الفيلم- عن وجودها.
علي كل حال فان بليغ نفسه هو الذي سيضبط صوت ورده علي نغمته الاجمل والابقي، لكن سنوات عديده كانت لا تزال تفصل زواجهما المستقبلي عن لقائهما السينمائي الاول بدايه الستينيات، فضلا عن زواجها لعشر سنين من دبلوماسي جزائري رفض اشتغالها بالفن، نعرف الان انها -رغم تكرار توقفها- لم تستطع ابدا ان تبتعد عن الغناء حتي النهايه. انفصلت عن زوجها وعادت الي مصر التي كانت قد تغيرت، مصر السبعينيات اخذت تبتعد كثيرا عن مصر الناصريه، لم يعد مكان للاوبريتات الثوريه ولكن المكان اتسع للحب، سبع سنوات فقط (72 – 1979) ربطتها بالزواج من بليغ حمدي لكن الحب بقي للابد، ليمنح الفن العربي اجمل اغنيات الغرام في كل اطواره، بعدا واقترابا، شجنا وغضبا وداعا وحنينا.
هل يمكن وصف هذا الغرام الفني المذهل في كلمات؟ لا يمكن طباعه الصوت علي الورق، لكن نظره الي اغنيتين مثل «العيون السود» و«حنين» تدلّنا علي شيء مهم، فعلي الرغم من ان الاولي كتبها محمد حمزه، والثانيه كتبها عبد الوهاب محمد، فان المستمع لا يكاد يفرق بين عالمي الاغنيتين، او بينهما وبين «حكايتي مع الزمان» وهي لحمزه ايضا، هذه الحالة النادره لتوافق الصوت مع الموسيقي طغت علي اي عنصر اخر من صناع الاغنيه، بل انها القت بتاثيرها علي اغنيات لم يجتمع فيها الثنائي، مثل «بكره يا حبيبي» من كلمات عبد الرحيم منصور، والحان كمال الطويل، بدا ان كل اغنيه تغنيها ورده من دون بليغ كانها تنتمي الي عالمه في النهايه، العكس صحيح ايضا، فالحان بليغ لغير ورده -بعد انفصالهما- بدت ايضا كان ورده تغنيها، لا نموذج لذلك افضل من اغنيه مياده الحناوي «الحب اللي كان»، والتي كتب كلماتها بليغ بنفسه، مستخدما اسمه المستعار «ابن النيل»، استثناءات قليله استطاعت الخروج بورده من عالم بليغ في اثناء حياته، اشهرها «اكدب عليك» من الحان الموجي وكلمات مرسي جميل عزيز، وهي اغنيه يكفي انها صارت الامتحان الذي يحاول به المطربون الجدد اثبات امكاناتهم الطربيه.
بقوه ارادتها وصوتها معا، استمرت ورده في الغناء بعد بليغ، حققت نجاحات ابرزها مع صلاح الشرنوبي في «بتونس بيك»، واثبتت دائما انها تستطيع البقاء ملء السمع والبصر، لكننا نعرف ان ورده الباقيه.. ورده التي نعرفها، ظلت هناك حيث غاب بليغ حمدي بالرحيل المبكر، لكن «دي قسمه اتقدرّت».