جريده المصري اليوم» تنشر مذكرات المفكر الكبير د.مصطفى محمود التــى سجلــهــا قبـــل وفــاتــه
ومن هذه المذكرات وفي الحلقة الاخيرة يتحدث المفكر مصطفى محمود رحمه الله عن عبد الحليم وعبد الوهاب:
وحول علاقته بالعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، قال: «كلما كنت أنظر إليه كنت أرى عللى، وأمراضى، فصوته كان يحمل الأسى والحزن والبؤس والرقة والعذوبة، ولهذا نجح، لأنه استطاع أن يهز المشاعر والأحاسيس بصوته العذب الرقيق، وأتذكر أننى عندما قابلته لأول مرة فى منزل عبدالوهاب، قال لى (سمعت أنك فنان وعازف موسيقى جيد للعود والناى وصاحب صوت جميل)، فقلت له: (لكننى لم أعزف بوق فى يوم من الأيام لأننى ولدت أتنفس برئة واحدة)، وتبادلنا الحديث طويلاً فى تلك الليلة، وتقابلنا بعد ذلك كثيراً، لكن علاقتى به لم تكن عميقة، أى لا يمكن أن نطلق عليها كلمة صداقة،
بينما علاقتى بعبدالوهاب كانت مختلفة عن علاقاتى بالآخرين، وهو كذلك أيضا، ولعلها كانت متميزة جداً، وكنت أناديه بـ(عبدالورد)، وكان هو ينادينى بـ(درش)، وكانت علاقتنا حميمية إلى أبعد الحدود، فقد كان يتصل بى أكثر من 10 مرات يومياً، ويظل معى على التليفون بالساعات ليلاً، ومن خلاله تعرفت على معظم الفنانين، وتعلمت منه بعض العادات الحميمة، فلم أشاهده يشرب الماء إلا وعليه قطرات من ليمون، وعندما كنت أسأله عن السبب كان يقول لى إن المياه تكون صحية ونقية وتشفى من الأمراض، وأحيانا يداعبنى بقوله (إزاى إنت دكتور ومتعرفش الحاجات دى؟)
ومن بعدها ودون تردد لم أشرب الماء إلا بعد تقطيره بالليمون، وعرفت بعدها أن هذه هى الطريقة المثلى للتخلص من الأمراض، وعرفت من يومها أنه كان طبيباً لم يدرس الطب، وهكذا كنت أقول له دائماً، وكان هو يرد بأننى فنان لم أدرس الفن، وكل ما يمكن أن أقوله عن (عبدالورد) الذى لا تسعفنى الذاكرة الآن لذكره، موجود فى مقال كتبته عنه بعد وفاته، ونشر فى مجلة الشموع فى 21 يوليو 1991 وهو بعنوان (نفحات من الله .. لا عبقرية .. ولا إبداع)، وكان يقول: (الإيمان فى حياة محمد عبدالوهاب حقيقة وليس نفاقا، لم يكن يسمى فنه شطارة أو عبقرية أو إبداعا،
بل كان يسميه خواطر ونفحات من الله سبحانه وتعالى، وكان إذا وُفق فى عدة ألحان، يقول ربنا فتح علىّ أو ربنا نفخ فى صورتى، وكانت له أيام الصبا نزوات وهذه روايات حكاها لى بنفسه، وكان حين يخطئ ويتغلب عليه ضعفه، يقسم ألا يعود إلى الخطأ مرة أخرى، وكان يدعو الله أن يساعده فى التغلب على نفسه وكان يتوسل، فالله خالق الجمال ومتذوق الجمال، والفنان عاشق لكل أشكال الجمال، ولابد أن يكون له عند الله هامش من حرية يدخل فى مجال المغفرة، بهذا كان يتوسل إلى الله ويتعذب وإحساسه الداخلى بأنه يخطئ كان مصدر قلق يلازم إيمانه الراسخ بعدل الله وقوته ومغفرته،
وكان يبكى كالأطفال وهو يعترف لى بأن كل الذنوب التى اقترفها فى حياته قد اقترفت فى حقه بعد ذلك، وهذا هو القصاص العادل فى الدنيا، لقد دفع ثمن أخطائه باهظا، فالبيئة الدينية التى نشأ فيها منذ طفولته كان لها أثر كبير فى حياته، ونجد أن التلاوة القرآنية والرجع القرآنى الكامن فى باطنه يبدوان جليين فى أغانيه للقصائد، فنرى (الفقى) واضحا فى أبيات كثيرة من (يا جارة الوادى)، وكان يقف طويلاً أمام مقالى (عظماء الدنيا وعظماء الآخرة)، ويقول لى (عششت فى مخى أننى لست من عظماء الآخرة لأننى من عظماء الدنيا)، فالأخلاق هى التى تقود إلى الصواب وإلى الله، لأن الله قال (وإنك لعلى خلق عظيم)، ولم يقل على علم أو فن عظيم، وذو الخلق يرفع ويحتمل،
ولهذا فقد سميت الآخرة رافعة خافضة، وكان عبدالوهاب رجلاً مدركاً لعيوبه ومميزاته، وبداخله تجد الإنسان المصرى الشرقى المتدين المؤمن، وكان يطلبنى فى الواحدة بعد منتصف الليل ليناقشنى فى الثواب والعقاب، ويبكى بشكل متصل. إن الإيجابيات فى شخصية عبدالوهاب أكثر بكثير من السلبيات فهو إنسان فيه سماحة ووداعة وخصال طيبة، فلم أره مرة يغضب أو يشتم أو يظلم، وكان صبوراً لديه الجلد وطول البال وقوة التحمل، وكان بداخله السياسى والدبلوماسى، وهى أخلاق العظماء، فلو أنه اتجه إلى غير الفن لكان من كبار الساسة فى العالم، وهو من القلائل الذين جمعوا بين الفن والحكمة».