بليغ.. مداح الوطن!
[url=http://www.masress.com/author?name=%D9%87%D9%86%D8%A7%D8%A1 %D9%81%D8%AA%D8%AD%D9%89]هناء فتحى[/url] نشر في روزاليوسف الأسبوعية
لم يذكر التاريخ أن هناك رجلا أحب امرأة واحدة طوال حياته إلا فى الأحلام، أو فى "الحواديت"، إنها حقيقة كونية لا جدال.. فالرجل حين يقع فى الغرام حتى إن اشتد الوجد به وسقم منه الجسد ووهن الفؤاد فلن يطول عذابه، إذ سرعان ما ينتابه الملل، فيعود لعقله ولطبعه باحثا عن حب جديد.إلا أن التاريخ نفسه يذكر أن هذا الرجل "الدنجوان" الذى أحب وعشق وخان قد لوعته امرأة ما.. عذبته أو خانته.. امرأة يظل يذكرها بين الحين والحين.. يلعنها بين الحين والحين.. وينساها بين الحين والحين، لأنها ببساطة عرفت كيف تبنى لها بيتا عند تخوم ذكرياته.
كان بليغ حمدى مثالا مجسدا لذلك العاشق "الدنجوان" الذى تقلب فى هوى النساء وعذبته منهن واحدة.. لم تتوقف دقات قلبه عند امرأة بعينها.. لم يأخذ رحاله ويحط طويلا أمام دار الحبيبة.. ولا حتى وردة الجزائرية رغم كل ذلك الحب الذى جمع قلبيهما، وذلك الرابط الفنى الذى جمعهما، وحين جاءت نهاية زواجهما كانت بداية حبه.. لمطربة كبيرة أخرى غير مصرية، وبعدها كانت له قصص مع النساء عدة.
إلا أن مصر كانت هى الحب الوحيد التى حفرت حروفها الثلاثة وشما على صدره.. كانت مصر هى غرامه الأخير والكبير والحقيقى، كانت هى الميلاد والممات.. الأرض والقبر.. الوصل والهجر.. كانت هى المرأة الوحيدة التى ضيعته.. والتى تمنى الموت بها فمات غريبا مطرودا من حضنها.
كان بليغ حمدى فياضا فى الموسيقى وعشق النساء.. كان يدخل فى علاقة حب ويخرج منها بنفس السهولة التى يضع بها ألحانه وموسيقاه.. إلا أن مصر كانت غرامه الأصعب والأطول.
كان العباقرة والفنانون والشعراء يشبهون الوطن بالمرأة، كان بليغ حمدى يعتبر مصر امرأة المستحيل، رائعة الحسن، فريدة الصفات تنتفى منها كل العيوب، لذا كان هو أكثر الملحنين صنعا لأغانى الوطن، بل إنه كان يكتب كثيرا من كلمات تلك الأغانى حتى إن نسبها لشاعر آخر.
أغنيات بليغ بعد نصر أكتوبر جاءت نموذجا لحب امرأة مكتملة ساحرة مستحيلة، تلك الأغنيات التى خلدت ذلك النصر فى ضمير البسطاء أكثر مما خلدته السينما فكل الأفلام السينمائية التى واكبت نصر أكتوبر لم تكن على مستوى الحدث العظيم، لكن بليغ وصفها بالموسيقى كما يجب أن تكون.. بل إنه فى النكسة صنع مع عبدالرحمن الأبنودى موال النهار.. تلك الغنوة العبقرية غير المكررة فى تاريخ الغناء العربى.
لم يكن بليغ حمدى فياضا فى أغانى عشق مصر فقط، بل فى كل الأغانى العاطفية لكبار المطربين أو حتى للمطربين الناشئين الذين صاروا نجوما بألحانه مثل عفاف راضى وهانى شاكر وميادة ولطيفة وكثيرين، وصنع كل الألحان الشهيرة والخالدة فى تاريخ كل المطربين والمطربات.
كانت عبقريته فى تلك الكيفية التى تلمس فيها أصابعه مناطق البلاغة فى أصوات المطربين، موهبته الفائقة كانت فى اقتناصه لأجمل طبقة لحنية بالحنجرة، وسرعته فى الانتهاء من اللحن بعذوبة ويسر، لقد وضع لحن "حلوة بلادى السمرة" فى ساعات قلائل، وكذلك فعلها مع "عدوية" ومعظم ألحانه.
لم يحدث أبدا أن وضع بليغ لحنا يشبه لحنا سابقا، ولم يحدث أبدا أن اتهمه أحد بالسرقة أو الاقتباس أو حتى التأثر، كان لا يغرف إلا من نهره هو، كان نهره عميقا طويلا عذبا يسكب منه كيفما شاء وقتما يشاء، وكأنه استحوذ وحده على خزائن "على بابا" الموسيقية، كانت موسيقاه فعلا جواهر ومعادن نفيسة: "موعود، ألف ليلة وليلة، أنا باستناك، بعيد عنك، سواح، بهية، فى وسط الطريق، مشيت على الأشواك، خلاص مسافر، عشان بحبك أنا، تهجرنى بحكاية، حبيبى يا متغرب، حكايتى مع الزمان، قولوا لعين الشمس، سلامات يا حبايب، آه يا أسمرانى اللون، قبل هواك، إن ما اسمريت يا عنب بلدنا، عدوية، ردوا السلام، خسارة خسارة، ما تحبنيش بالشكل ده، يا نخلتين فى العلالى، العيون السود، تمر حنة، بلاش تفارق، بعيد عنك، بودعك، آه بحبه آه، حبايب الدار، لو سألوك، دندنة، مداح القمر، يا قمرنا، ركبنا ع الحصان، وحشتونى ووحشتنا، والله يا زمن، مكسوفة، خلاص مسافر، خدنى معاك، كل شىء راح وانقضى، ليلة من ليالى، فى وسط الطريق، سكة العاشقين، أنا باعشقك أنا.
لحن بليغ فى حب مصر أجمل وأعذب موسيقاه: أصبح عندى الآن بندقية، فدائى، يا حبيبتى يا مصر، المسيح، البندقية اتكلمت، الفجر لاح، أرضنا الخضرا، على الربابة باغنى، عاش اللى قال، يا أم الصابرين، راجعين، حلوة بلادى السمرة، ادخلوها سالمين، موال النهار".
كان بليغ حمدى أثناء أزمته الشهيرة والحكم عليه بالسجن، يعتقد أن حبه الجانح والكبير لمصر سوف يشفع له كى تسامحه، أو يزكيه عندها لتنسى زلاته مثلما هو حال الأحبة، لكن حادثة مقتل أو انتحار تلك المرأة المغربية سميرة مليان، من شرفة منزله كانت سببا فى زلزلة ذلك الحب العظيم، الذى أدى إلى فراره بعيدا لأرض فرنسا وموته وحيدا فى ثلاجة أحد مستشفيات باريس.
لم يكن يرغب أبدا فى الموت خارج حضن مصر، وحاول العودة مرات ومرات، لكنه فى فترة إقصائه هذه قد أنتج أجمل وأغزر ألحانه، كان يرسلها للمطربين المصريين والعرب وكانوا يرحلون إليه لحفظ ألحانهم عنده.
فى إحدى المرات كان يضع لحنا لوردة سوف تغنيه فى أحد أعياد الشرطة.. وكان أن اتصل به زكى بدر وزير الداخلية الأسبق ليستعجله الانتهاء من اللحن لتحفظه الفرقة الموسيقية فى مصر، فقال له بليغ: عايز أرجع مصر.. رد زكى بدر: أهلا وسهلا، بس لو رجعت ح أحبسك!
لكنه رجع جسدا مسجى فى تابوت يوم 3/10/1993 وكان قد ولد فى 7/10/.1931
ما بين أكتوبر مولده وأكتوبر وفاته عاش بليغ حمدى حياة حافلة بالحب والعبقرية والجنون الجميل!
للناقد الدكتور شاكر عبدالحميد كتاب بعنوان "الأدب والجنون" يعالج فيه ظاهرة العبقرية المريضة عند بعض المشاهير مثل "كافكا وشكسبير وبلزاك وديستوفسكى"، وانتهى المؤلف إلى أن هؤلاء العباقرة لم يصابوا بالجنون ولم ينتجوا فنا مجنونا لمجرد عشقهم لحالات الجنون، لكنهم حاولوا من خلال هذه الحالة "الفنية" اكتشاف أعماق الذات الإنسانية وخفايا المجتمع ومظاهر تدهوره وانحلاله، إلا أن الكاتب ينفى فى نفس الوقت فرضية الجنون عند المبدع باعتبار أن الإبداع الفنى يقوم فى أساسه على ملكة التنظيم، وهى - عمليا - تتناقض واختلال القدرات وتدهورها، الذى يكون حاضرا أثناء المرض العقلى.
أدت حادثة انتحار أو قتل المغربية سميرة مليان من شرفة منزل بليغ إلى الحديث عن عاداته وانفلاتاته وعبقريته وجنونه وراحوا يتذكرون حكايات ونوادر تؤكد أنه كان ينسى مواعيده مهما كانت أهميتها، فقد نسى موعد خطبته على ابنة عبدالوهاب ولم يذهب ففسخ عبدالوهاب الخطبة، كانوا يتحدثون عن شطحات وكرم وبذخ ومنزل مفتوح لكل العرب، لكل الزائرين لكل الغرباء، كان سخيا كريما محبا بجنون.
كان لا يعرف من يعيش بمنزله، من يأتى ومن يرحل هذه الكارثة التى تسببت فى مقتل المغربية التى لم يذكر أحد لماذا جاءت إلى بيت بليغ ولا من قتلها.
هناك الكثيرون الذين اعتقدوا أثناء تلك الأزمة أن فنانا جميلا بحجم بليغ، محبا وعاشقا أن تتم محاسبته بشكل مختلف، بمعنى أدق، أن يكون الحساب أقل حدة، وأقل قسوة وأقل حكما مما حدث خاصة أن القضية لم تثبت أنه كانت له يد فى موت المغربية.
لم يكن بليغ حمدى فوضويا أو بائسا، ولم يكن كمعظم المطربين والموسيقيين الذين نشأوا فقراء وتعلموا فى الكتاب، بل كان عبقريا، طفلا عبقريا لأسرة ثرية ومثقفة ذات صبغة فنية وسياسية، أبوه كان يعمل أستاذا للفيزياء فى جامعة فؤاد الأول، كان بيت الوالد مليئا بالفنانين ورجال السياسة والاقتصاد، ولد بليغ حمدى على صوت مناقشاتهم ومسامراتهم، امتلك أول عود حين أتم عامه السابع وكان يعزف عليه ببراعة ألحان كبار الموسيقيين.
كان منزل والد بليغ فى حى شبرا بجوار منزل شادية، كانا صديقين يملكان نفس الموهبة الفذة والمستقبل العريض، وكانت آخر رسالة له من الغربة أرسلها إلى شادية، الصديقة والجارة القديمة التى وضع لها أعذب الألحان.
تخرج بليغ فى كلية الحقوق وكان واسع الاطلاع والثقافة، بليغ اللسان، يكتب الشعر والزجل.
كان له بيتان أحدهما شقة فى ميدان سفنكس بالمهندسين والتى تزوج فيها من وردة الجزائرية، والآخر فيللا فى شارع بهجت على بالزمالك بها مكتبة ضخمة تحوى كتبا فى كل العلوم والثقافات فى الفن والسياسة والأدب والتاريخ والاقتصاد والحضارة والشعر والحرب، وأعواده الثلاثة مرصوصة فى حجرة مكتبه، ودفتر لمذكراته ونوت تجمع مؤلفاته وأشرطة تسجيل عليها كل ما فكر به من ألحان وبيانو قديم الطراز، ومكان للضيوف المغتربين ومكان آخر للمطربين الباحثين عن لحن لديه، ومكان صغير للنوم، وهو نفس المكان الذى سقطت منه المغربية ميتة!
الغريب فى الأمر أو الطريف أن هذا البيت الكائن بشارع بهجت على بالزمالك شهد وضع لحن أغنية "الجزائر" عام .1961 وهو نفس الحى الذى شهد مظاهرات المصريين حول سفارة الجزائر التى أعقبت ضرب الجزائريين للمصريين فى استاد المريخ بالسودان بعد مباراة المنتخبين الأخيرة هناك.
لهذه الأغنية قصة طريفة كان قد رواها الكاتب الصحفى محسن محمد أحد جيران بليغ وقتها:
كان بليغ حمدى يضع لحن أغنية "أرض الجزائر"، وكانت الساعة الواحدة صباحا تقريبا حين طرق باب الفيللا ضابط يطلب من بليغ أن يوقف أصوات الموسيقى الصادرة التى سببت إزعاجا للسكان الذين قدموا بلاغا ضد بليغ فى القسم التابع للحى، خاصة من أولياء أمور تلاميذ المدارس الثانوية.
قال بليغ: ولماذا لا يستذكرون على نغماتى؟!
صرخ الضابط: يا أستاذ غدا امتحان الثانوية العامة!
رد بليغ: حاضر على أن تتحمل وحدك تبعات عدم إكمالى اللحن الذى طلبه منى جمال عبدالناصر وأحمد بن بيلا.
رد الضابط: لأ.. لحن يا أستاذ!
كان بليغ حمدى مصريا عروبيا قوميا، أول فتاة أحبها فى حياته مسيحية اسمها "مارية" جارته فى شبرا وقت أن كان تلميذا.. وكانت المرأة الوحيدة التى تزوجها هى وردة الجزائرية.. ولحن لكل المصريين والعرب من المشرق إلى المغرب: فهد بلان.. وديع الصافى، صباح، ميادة، سميرة سعيد، لطيفة.. فايزة أحمد.
لم يفر بليغ حمدى كما كان يعتقد الجميع إثر الحكم الصادر ضده بعد حادثة سميرة مليان.. فقد كتب رسالة عذبة وقاسية للفنانة شادية من باريس يؤكد فيها أنه سوف يعود لمصر ليواجه مصيره كى لا يموت فى الغربة كانت الرسالة بتاريخ 2-12-1988: "أختى الحبيبة شادية.. ولكل إنسان فى بلدى مصر.. شادية.. أكتب لك من وحدتى القاتلة.. من غربتى النفسية العميقة.. من مرضى الذى يهاجمنى فى كل لحظة: الكبد والمرارة والأعصاب.
شوشو.. أتابعك من هذا البعد العميق فى سفرك ورجوعك.. بألم البعد وفرحة العودة لتراب مصر كما كنت أتمنى رغم المرض أن أنتهى من لحن كلمات صغتها لبلادى وأسميتها "هدية من مغترب"، تصورى أن ينتابنى أخيرا الإحساس بأننى مغترب، لقد قررت العودة إلى مصر بمجرد تسلمى الأشعات والتقارير الطبية الأخيرة، فالموت فى بلادى أهون من أى غربة!
انتهت الرسالة
لابن حزم فى كتابه "طوق الحمامة" باب بعنوان "علامات الحب" يصف فيه الهوى الكامن فى قلب الحبيب وأماراته ودلالاته وإشاراته منها: "الإسراع بالسير نحو المكان الذى يكون فيه الحبيب أو الحبيبة.. والتعمد للقعود بقربه والدنو منه.. واطراح الأشغال الموجبة للزوال عنه، والاستهانة بكل خطب جليل داع إلى مفارقته".
ولابن حزم أيضا فى نفس الكتاب فصل آخر بعنوان "باب الموت" يقول فى إحدى فقراته: "وربما تزايد الأمر ورق الطبع وعظم الإشفاق فكان سببا للموت ومفارقة الدنيا.. وقد جاء فى الآثار: من عشق فعف فمات فهو شهيد"!