عبد الحليم حافظ.. و«موعود»!
بقلم: الدكتور أنيس منصور / جريدة الشرق الأوسط
كنت على صلة قوية تليفونية بعبد الحليم حافظ. وذهبت إليه في بيته مرات عديدة. فالبيت مليء بالناس أكثرهم من الموسيقيين الذين يشتركون في عمل بروفات طويلة لأغنيته الجديدة. مرة واحدة أمضيت الليل كله عنده. فقد كان يجرب بروفات على أغنية (موعود) من تلحين بليغ حمدي. وهي من أجمل الألحان وأكثرها زخرفة موسيقية وبلاغة لحنية. وكان الإرهاق باديا على عبد الحليم: وجها وصوتا وجفاف ريق وسعالا محتبسا. لا هو يسكت ويستريح..... ولا الفرقة الموسيقية.. وأحسست كأن هذا هو آخر ألحان عبد الحليم، فهو مثل الطائر الذي يغني أجمل ألحانه قبل أن يموت.. أو هو مثل طائر الشوك الذي قبل أن يموت، يطير يبحث بين الأشجار الشائكة عن أطول شوكه ويلقي بجسمه عليها فتنفذ في أحشائه ليموت في أعلى أغصانها!
وندمت أنني ذهبت إليه. وحاولت أن أطرد هذه الفكرة ولكنها طاردتني وطردتني من بيت عبد الحليم وطردت النوم من عيني. وأطبقت نفسي على حزني وأسفي. وفوجئت بأن عبد الحليم يطلب منى أن أحضر حفلته وأنه حجز لي مقعدا فى الصف الأول..
وزاد حزني وخوفي عليه. فأنا لا أحب أن أراه يسقط على المسرح. وانفتح الستار عن الفرقة الموسيقية.. ويبدأ عبد الحليم يغني بحيوية وانتعاش: موعود.. ومن حين إلى حين يدخل إلى وراء المسرح يتعاطى شرابا أو دواء. وأكذب لو قلت إنني سعدت بالأغنية البديعة.. فقد أفسد الخوف علي كل رغبة في الاستماع. وظللت طول الوقت وفي كل مرة يدخل وراء المسرح.. أتوقع ألا يجيء..
وانتهت الحفلة والناس سعداء بما سمعوا. وصفقوا مرات. وقد دبت فيه الحياة والحيوية والسعادة والنشوة وتوارى المرض والضعف والوهن.. وعندما عاد إلى البيت تساقط قبل الفراش وفي الفراش. وأحس الجميع أنها النهاية. ولم تكن النهاية وإن كانت شهور قبل النهاية!