رساله بليغ حمدى الى الكاتب نجيب محفوظ يهنئه بجائزه نوبل 1988
خي الغالي القدير، الحبيب إلى كل شخص في بلدي، نجيب محفوظ...
أكتب لك لأبارك لك هذا الفوز العظيم للأدب والفن المصري والعربي كله. ألف مبروك. يعني أخيرًا خبر حلو في برد باريس – وما أدراك ما باريس في أكتوبر، بلونها الرمادي وسمائها الشاحبة.
وحشتني مصر يا نجيب، مصر الجميلة. وحشتني الشمس والألوان، وحشتني ضحكة الناس الحلوة، ووحشتني ضحكتك إنت المجلجلة العالية التي تشبه عفوية أهلنا وطيبتهم في بلدنا الطيبة. تصدق بالله، أنا لم أتمالك دمعتي حين عرفت بفوزك بالجائزة. عندما شاهدت صورتك على غلاف مجلة «ليبراسيون» هنا، لقيت في وداني مزيكا بأدندنها، لقيت فجأة على لساني لحن مغزول من لمعة الشمس على صفحة النيل. كنت هاين عليّ إني أوقف الفرنساويين واحد واحد في الشارع أقول لهم «الجدع ده مصري، مصري زيي، شوفوا ملامحه المنحوتة زي ملامحي، هما دول المصريين. صناع الحضارة والهرم والتاريخ والفن وكل حاجة حلوة»، لكني هنا غريبٌ لا أحد يفهمني، ولا أحد يسمعني!
تصور أني ينتابني الإحساس الآن أخيرًا أني مغترب، وآه يا نجيب يا خويا من إحساس المغترب، وآه من حرقة الآه. صحيح أنا جوايا العنيد الصعيدي الذي لا يمكن أن يكسره شيء، لكن أبشع شيء في الدنيا إحساس الظلم، وإحساس أنه لا شيء هناك أبعد من تراب مصر!
اشتريت المجلة وعليها صورتك، ولقيتني ماشي في الشارع بادندن في برد باريس «جوني يا جوني يا بتاع الزيت، في المُوني يا جوني دبت وطبّيت» وافتكر أيامنا سوا واضحك، وأنا اللي ليا زمن الضحكة ما زارتش شفايفي. قفزت قصاد عيني ذكرياتنا لما اشتغلنا سوا على مسرحية «زقاق المدق» (عملها حسن عبدالسلام مرة تانية من كام سنة، لو تفتكر، لكن حدث ما حدث، واضطريت أسافر، ومالحقتش أشوفها. الحمد لله على كل حال!!) افتكرتك وافتكرت حسين السيد وافتكرت كل الناس الحلوة اللي ما بتغيبش عن بالي. افتكرت كلامه في غنوة مطلع المسرحية وهو بيقول «خَدني الهوا من حضن أمي.. ما عرفت جيبي من كُمّي».
أي والله يا نجيب يا خويا. خدني الهوا من حضن أمّي. ولغاية باب القبر، سأظل أسأل نفسي دون فائدة؛ حتى متى سيبقى القلب أخضر لا يتعلم من التجارب ولا يستفيد من الخبطات. كل خبطة الواحد يقول سيتعلم، ولا بيتعلم ولا دياولو. كنت باقرأ روايتك، وأفكر في حميدة، البنت الملهلبة اللي حرقت الكل بنارها. أجمل حاجة في رواياتك يا نجيب انها حكايات واحد عاش وجرّب. أنت لست من الكتّاب الذين يكتبون من وراء لوح زجاجي. أكيد انت اتكويت بنار واحدة زي حميدة. كل واحد فينا اتكوى. وفينا اللي اتكوى مرة ومرات. أتذكر عبارتك كأني أسمعها بصوتك الآن «في حياة كل واحد منا حب خائب، يترك علامة لا تزول أبد الدهر»، لكن ماذا يفعل من هو في مثل حالي يا نجيب، من في حياته أكثر من حب خائب، وأكثر من علامة لا تزول أبد الدهر. كل حميدة تأتي ويأتي معها وجعها، يأتي معها جرحها. كل حميدة أقول خلاص، هارتاح، هاستريح، هالاقي الأمان، لكن كأني أبحث عن شيء لا أريد أن أجده، وكلما وجدته أضيعه عمدًا حتى أبحث عنه من جديد!!
اقرأ أيضًا
ندوة عن «أحفاد نجيب محفوظ» وأخرى عن «التراث الشعبي» بـ«الأعلى للثقافة»
زي النهارده.. فوز نجيب محفوظ بـ«نوبل» 13 أكتوبر 1988
هل لاحظت أن كل أفراد الرواية هلكوا جميعًا- عباس الحلو وصاحبه والدرويش الذي يرطن بالإنجليزية وحتى فرج- لكن حميدة بقيت. حميدة حرقت الكل وجلست تبتسم في جبروت الأنثى. حميدة العسل والمر، الوفاء والغدر وحب العمر الذي يقضي على هذا العمر. حميدة الرقّة، والشوك والدمعة، والبحر الذي لا ينتهي من الأحزان. حميدة الكدبة، وأحلى كدبة، نصدقها ولا نريد سوى أن نصدقها. يا أخي لو تدلّني، ممّ خلق الله هذا الجنس الذي يدعى «الستات» يا نجيب؟ هل عندك إجابة؟ ألاقي عندك إجابة تريح قلبي مما فيه؟ ولا يمكن الغلطة غلطة عباس الحلو – العاشق الساذج، العاشق الذي ترك نفسه يهلك ولم يراعِ مصلحة نفسه (عمري ما وافقت حسن الإمام على ما فعله في الفيلم ـ أنه جعل حميدة هي التي تموت، هو فيه ست بتموت؟! الراجل العاشق هو الذي يهلك دومًا في النهاية. أنت على صواب يا نجيب) يمكن الغلطة هي غلطة «عباس الحلو»، لأنه سلم نفسه للعشق لغاية الآخر، من غير حذر، لكن أرجع وأقول، هو فيه عاشق يعرف الحذر. يمكن لو كان مثل «فرج» كان على الأقل عرف يستخدم حميدة، عرف يستغلها ويستفيد منها، من غير وجع، من غير ألم، على الأقل من غير جراح. لو كان الواحد بإيده يبقا زي فرج، لكن يعمل إيه اللي ربنا خلقه عباس، عباس العاشق الساذج العبيط. وعلى رأي حسين السيد في آخر الغنوة «ويا ريت يا جوني .. ما كبرت يا ريت».
مبروك تاني وتالت ومليون يا نجيب، ومسيري أقولهالك في مصر قريّب بمشيئة الله ورحمته الواسعة.
أخوك بليغ حمدي
باريس - 28 أكتوبر 1988