كتب محمد شمروخ لملحق اهرام الجمعة
عندما شدا العندليب بـ «أي دمعة حزن لا» لم يغنها ليمسح الدموع أو يزيل الأحزان، بل إن كثيرين وكثيرات سالت دموعهم أنهارا مع هذا اللحن الحزين وكان «حلم» يغنها كأنه يبكي، فسر جمال هذه الأغنية وكل أغنية، كان في الكم الهائل الذي ملأها من الشجن والدموع واللهفة والجراح..
فكأنها «مندبة» عاطفية كبرى، لطم فيها العندليب ولطمنا وراءه الخدود وما زلنا نلطم كلما «عدد» عبد الحليم الذي كان كثيرا ما يحرك يديه على ألحان أغانيه بحركات «معددة محترفة» صنعتها إحياء المياتم وتوليع الجنائز بالسح واللطم.وحياة ربنا أنا أتكلم في منتهى الجد، فقد كانت عبقرية «حلم» في أنه أعاد صياغة أحزان الحب فاستعذبناها فعذبتنا بعذابها وعزوبتها، فحليم في غنائه لأحزانه هو مصري قح وفلاح محط يغنى للحزن وبالحزن، فنحن كمصريين هزمنا الحزن بأن حولناه إلى كلمات أغاني نواسي بها أنفسنا في المنادب وندندن فيها بآلامنا، فهزمنا اليأس في عقر داره واستولينا منه على سلاحه وحولناه إلى ناي وطبلة وربابة وزمارة قبل أن يعدي النهار علينا ولو كان نهار أسود من قرن الخروب!.وفي حلقة من برنامج على التلفزيون، قرر حليم بهدوئه المعتاد في نطق الكلمات، عندما سألوه عن سر أدائه الحزين في اغانيه فكشف لنا ببساطة «أنا بأغنى للحب.. والحب فيه حزن»!.
فمتى لم يكن الحب هجر وصد ودموع وعذاب ومرار طافح؟!، علينا وعلى حبايبنا الذين كأن مهمتهم هي التنكيد على حيانتا وتنغيصنا في قلب الليالي ونحن نفكر في هذا الهم المكتوب ونشكو الحب ليزداد شعوطة وشعللة، لأنه لن يصلح غير هذا كذكريات سعيدة تعيد الإحساس للقلوب الميته بإكسير الحياة بعد طول سنين.
فلذلك نحب ونصر على الحب، لا لأننا غاويين نكد وقرف وعالم لا ينفع معنا إلا الذي يهجرنا ولا يسأل فينا ولكننا لا نزال نحب، لأنه لا يصلح كذكريات تعيننا على ركود الحياة وجمود الأحياء، إلا بالحب وذكرياته ولو كانت غما في غم!.
ومن يوم يا حليم ما تخلت الأغاني عن الحزن ورأينا المطربين فرحانين بحبايبهم ولا يشكون منهم.. من يومها يا عندليب يا حبيبي والحب فقد طعمه مع دلع عمرو دياب وهشام عباس وانتهينا لهز الصغير ونطنطة أوكا، فالحبيبة راضية وهو سعيد ومبسوط و24 قيراط والحب فقد طعمه لما تخلى عن الدمع والحزن مع لطيفة وسميرة وشيرين، فهو صار تهزيئا للحبيب -بعيد عنك- لأنه واد تبت وعيل لزقة ولا عنده نقطة دم ولا ذرة إحساس.. فلماذا يسمع أغانى الحزن والبعيد ولا عنده شيء من الأحمر؟!.
وها نحن قد عرفنا بعد فقدان الحزن في الأغاني، قوانين الخلع وقايمة العفش وزواج الويك إند والبنت أم عشر صفحات على. الفيس وكل صفحة باشتغالة.
فأغانيهم بعدك يا عندليب، حولت الحب إلى رقص وتصفيق وصفافير وآخرتها تنتهى الليلة بقضية خلع أو دعوى نسب!.
سامحنا يا حليم ولكن لا تسامح ولن نسامح هؤلاء الذين انتهكوا قدسية الحب وأخلوا بجلال الحزن الذي كان هو سر صوتك وسر حبك وخلودك بينا.
سنسمع وسندمع وأنت تغنى لنا
«آه من الأيام آه .. لم تعط من يهوى مناه»
و«ابكي تحت الليالي والخوف ملو الدموع»
«ورميت نفسك في حضن سقاك الحضن حزن»
وبعد كل هذا تقول لنا أي دمعة حزن لا؟... طب لا.. لا.. لا!