كتب عزمى عبدالوهاب لملحق اهرام الجمعة
كنوع من إدانة اللحظة الراهنة أطلق شخص ما مقولة «الزمن الجميل» وسارت الجملة كالنار في الهشيم، كلما انتابنا حنين ما نحو ماض ما، وهذه الجملة لا علاقة لها بالتاريخ، فلكل زمن جماله،
وبالتالي علينا ألا ندين من يسمع تامر حسني أو عمرو دياب أو نانسي عجرم، يجب أن نتفهم حالة الإعجاب بهما التي تصل حد الهذيان، والتي يراها الوقورون شيئا مبالغا فيه، فالجنون ذاته جرى مع أصوات «الزمن الجميل» ألم تنتحر فتيات فور علمهن برحيل العندليب الأسمر؟عبد الحليم حافظ صوت جميل تهيأت له ظروف الصعود، تحت عباءة نظام ثوري، كان ينظر إلى الماضي بغضب، حتى إن بعضهم منع بث أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب في الإذاعة، بدعوى أنهما ينتميان إلى «العصر البائد» ولولا حكمة وحنكة عبد الناصر، لتبدد تراث هؤلاء الكبار، فقد سخر ممن اتخذ القرار قائلا: «ولماذا لا تهدموا الأهرامات فهي من العصر البائد؟».عبد الحليم حافظ صوت جميل راهن بذكاء على ثورة يوليو، وراهنت عليه الثورة، فغنى «العهد الجديد» عقب عام 1952، قبل أن يشكل مع كمال الطويل وصلاح جاهين ثلاثيا شهيرا، بدأ تكوينه مع لقائهم الأول في العام 1956، لتنتقل الأغنية الوطنية على أيديهم إلى آفاق جديدة، كانت بمثابة ترجمة فنية للمشروع الناصري.
وجاءت النكسة في 1967 لتجهض هذا المشروع على كل المستويات، ودخلت الأغنية في أضابير الإذاعة، والتليفزيون فيما بعد، كانت تطل على استحياء في مناسبات وطنية من وقت لآخر، إلى أن تجلت بكل أبعادها في ميدان التحرير في يناير 2011.
كان عبد الحليم والطويل وجاهين يشاركون المتظاهرين في ميدان التحرير حماستهم وصمودهم وغناءهم، كان العندليب يولد من جديد مع صرخة طبقة تآكلت، طوال سنوات من الانفتاح الاقتصادي المزعوم، وعادت لتطالب بالكرامة الإنسانية والحرية، عبد الحليم حافظ العاطفي شكلا ومضمونا، يناسب شخصا قادما من الطبقة الوسطى، كان مقدرا لها أن تصنع تاريخ هذا الوطن في يوليو 1952، وتصعد معها رموز جديدة في الغناء واللحن والكتابة.
كان صلاح عبد الصبور نجم الشعر الجديد آنذاك يكرس وجوده في خارطة الشعر العربي، رائدا لشكل شعري جديد، وغنى له عبد الحليم حافظ قصيدة «لقاء» لكنها كانت المرة الأولى والأخيرة في التعاون بينهما، ليبقى الثلاثي الشهير في القمة يغني للميثاق والسد العالي وبستان الاشتراكية وتحالف قوى الشعب العامل.
وجاءت الهزيمة، وبعدها رحيل عبد الناصر المفجع، فتوقف صلاح جاهين عن الحلم، وتعطلت ماكينة الصوت الجميل، أو تاهت منه البوصلة، وعاد «الطويل» بعد سنوات ليظهر عضوا في حزب الرأسمالية المصرية، لكن المفارقات لم تفارق عبد الحليم حافظ، خصوصا في عام رحيله، وكأنه بموته أراد أن يسحب الستار على عصر كامل، غنى له بروحه ودمه.
في عام الرحيل كانت الانتفاضة الشعبية في 18 و19 يناير 1977 والتي هزت مصر من الإسكندرية إلى أسوان، ثارت الجماهير ضد نظام سياسي، محا كل آثار اجتماعية وسياسية، غنى لها عبد الحليم حافظ، وبعد تسعة أشهر بالضبط في 19 نوفمبر 1977 كانت طائرة السادات تهبط ذات ليل في «مطار بن جوريون» ليصافح السادات أيدي أعدائه الملوثة بدماء المصريين، ويختفي تراث عبد الحليم حافظ الوطني باستثناء «النجمة مالت ع القمر» و «صباح الخير يا سينا» أما الغناء الحقيقي، الذي يمس شغاف القلب، فقد انتظر لسنوات حتى يعود كالمارد في يناير 2011.