كأنه لم يغب 32 عاماً، فهو فنان مازال يرافق الأجيال كلها وينافس نجوم كل عصر على استقطاب المستمعين والمشاهدين. انه فارس الرومانسية عبدالحليم حافظ الذي تعود ذكرى رحيله في 30 مارس/آذار وكأنها مناسبة سنوية لتجديد العهد بيننا وبينه بما يؤكد أن النجم الحقيقي لا يبهت ولا يموت بمجرد فناء الجسد.
عبدالحليم حافظ ذلك الشاب البسيط الآتي من قرية الحلوات في محافظة الشرقية، لم يعرف أن الفن سيخلده وينقله إلى قلوب الملايين في العالم العربي. فحين سعى إلى إبراز موهبته الفنية، ورغم ولعه بالغناء وإصراره على الوصول والنجاح مهما كانت الصعاب، إلا أنه لم يصل بأحلامه إلى ما أوصله إليه الواقع والمكانة التي احتلها بين العلامات الفارقة في تاريخ الفن العربي والعمالقة أمثال محمد عبد الوهاب الذي تبناه، وأم كلثوم التي استخفت به ووصل الأمر بينهما إلى التحدي، ومحمد فوزي وليلى مراد وغيرهم الكثير.. ولعله تخطاهم بتحوله إلى ظاهرة تشبه ظاهرة الفيس بريسلي ملك الروك في العالم الغربي، بتسجيله أرقاما عالية في مبيع الأسطوانات ومنافسة الأجيال الفنية المتتالية على استقطاب الجمهور وخصوصا الفئة الشابة التي لم تعايشه، ومع ذلك تشتري أسطواناته وتردد أغنياته وتعتبره رمزا للرومانسية. حتى الفنانون الجدد يتحدثون عنه باعتباره الحلم والمثال الذي يتمنى أي منهم الوصول إليه أو التشبه به، إذ غالبا ما يأتون على ذكره في حواراتهم. وإذا كان أسلوب عبدالحليم حافظ ولونه الغنائي قد تحول إلى مدرسة تقرب منها البعض في حياته وبعد رحيله أمثال الفنان الراحل عماد عبدالحليم وهاني شاكر وأحمد دوغان الذي لقب في لبنان ب”العندليب الأشقر”، فان صورة العندليب وصلت إلى جيل عمرو دياب ومن بعده تامر حسني. وكلنا نذكر الحالة التي أحدثها برنامج “العندليب من يكون” الذي عرضته قناة “ام بي سي” قبل سنوات لاختيار شبيه لعبدالحليم يؤدي دوره في مسلسل حمل اسمه وعرض في رمضان، والإقبال الكبير من قبل شباب نستغرب أنهم يعشقون فنانا غاب قبل 32 عاما ويحفظون أغنياته كما يحفظون الأغاني المعاصرة، وهي حالة لا تنطبق على كل فناني ذلك الزمن الجميل مثل فريد الأطرش وعبد الوهاب ونجاة.
* لماذا يسكننا العندليب طوال هذه السنوات وهو من بدأ حياته الفنية بالفشل وتوجه إلى العزف قبل أن يأخذه العناد إلى تحدي الجمهور وأهل الفن ليثبت ملكته في الغناء؟
رافقته الأحزان منذ ولادته في 21 يونيو/حزيران 1929 وشاءت الأقدار أن تتوفى أمه أثناء ولادته، واعتبره البعض نذير شؤم، وقبل أن يتم عامه الأول توفي والده لينتقل عبدالحليم شبانة مع اخوته للعيش في بيت خالهم الحاج متولي عماشة. وهو الابن الرابع وفي أسرة ضمت 3 أولاد وفتاة، وكان اكبر اخوته إسماعيل شبانة مطرباً ومدرساً للموسيقا في وزارة التربية وراوده هو أيضا حلم الوصول الى الشهرة لكن الحظ ابتسم لشقيقه الأصغر ليقفز الى النجومية بعد معاناة مع مرض البلهاريسيا الذي أصيب به عبدالحليم وهو ما زال طفلا، ومعاناته من أجل الوصول الى منفذ يطل منه على عالم الغناء.
التحق عبدالحليم بعدما نضج قليلا في كتاب الشيخ احمد، ومنذ دخوله المدرسة تجلى حبه العظيم للموسيقا حتى أصبح رئيسا لفرقة الأناشيد في مدرسته.
التحق بمعهد الموسيقا العربية قسم التلحين عام 1943 حين التقى بالفنان كمال الطويل حيث كان عبدالحليم طالبا في قسم التلحين، وكمال في قسم الغناء والأصوات، وقد درسا معا في المعهد حتى تخرجهما عام 1949 ورشح للسفر في بعثة حكومية إلى الخارج لكنه ألغى سفره وعمل 4 سنوات مدرساً للموسيقا بطنطا ثم بالزقازيق وأخيرا بالقاهرة، ثم قدم استقالته من التدريس لبعده عن موهبته وميوله، ليلتحق بفرقة الإذاعة الموسيقية عازفا على آلة الأوبوا عام 1950 وهي آلة شقيقة للكلارينيت. وتشاء الظروف أن تنعقد في الإذاعة لجنة لسماع أصوات جديدة لاعتمادها لدى الإذاعة المصرية فتقدم لها عبدالحليم فنال إعجاب أحد أعضاء هذه اللجنة وهو الأستاذ حافظ عبد الوهاب، فشجعه ودعمه وكان لدعمه أكبر الأثر في نجاح عبدالحليم وقد سمح له باستخدام اسمه “حافظ” بدلا من شبانة.
بعد عام واحد أي في 1951 التقى من أصبح فيما بعد صديق ورفيق العمر مجدي العمروسي في بيت مدير الإذاعة في ذلك الوقت الإذاعي فهمي عمر. واستمرت العلاقة الوثيقة بين العندليب والعمروسي إلى ما بعد وفاة الفنان، حيث بقي الصديق حارساً أميناً على ابداعات عبدالحليم، ويقال إنه هو من ساهم في الترويج للأغاني ونشر أخبار العندليب وأسراره والشائعات التي طالته، وافتعل المناسبات ليبقي حليم تحت الأضواء وكأنه ما زال حياً.
رغم طموحه الكبير إلا أن بدايته في الغناء لم تكن موفقة، حيث غنى أمام الجمهور في احدى الحفلات فرشقه الحضور بالطماطم، ولعل هذه الحادثة تعتبر نقطة تميز في حياة العندليب، اذ كان من المفترض أن تترك في نفسه أثرا سلبيا وتزيل من رأسه فكرة الغناء أمام الجمهور، لكنه أصر على الاستمرار في طريقه غير عابئ بالمعوقات. كما يبرز عناد العندليب أيضا في حادثة تقترب زمنيا من حادثة “الطماطم”، حيث اعتلى المسرح ليغني أغنية خاصة به، فطالبه الجمهور بالتوقف وأداء إحدى الأغنيات المعروفة لمطربين مشهورين، إلا أنه واصل الغناء وكأن شيئا لم يكن وبداخله قناعة أن الأغنية الحديثة لا بد أن تصل إلى الناس مهما كان الثمن ولا بد أن يتعودوا عليها ليثبت من خلالها مكانته في الوسط الغنائي، علما أن من أولى الأغنيات التي أداها عبدالحليم أمام الجمهور أغنية “صافيني مرة” التي لحنها محمد الموجي، وكذلك قصيدة “لقاء” كلمات صلاح عبدالصبور وألحان كمال الطويل، ونتيجة لأسلوبها المختلف رفضها الجمهور لأول وهلة حيث لم يكن الناس على استعداد لتلقي هذا النوع من الغناء الجديد. ولعل هذه المواقف تطرح تساؤلا حول ما اذا كانت ثقة العندليب بموهبته هي التي زرعت في داخله هذا الالتزام والإصرار على الوصول إلى الناس مهما كلف الثمن، أم أنه ذكاء العارف بقدراته وبتمتعه بخامة صوت جديدة لم يعهدها الجمهور من قبل وبالتالي التزم الصبر ومنح الناس الوقت ليألفوا هذا النوع من الغناء الرومانسي السهل والمميز في آن؟
نجح حليم في التحدي وأدخل إلى الأغنية بعض التحديث ونقلها الى الناس بسلاسة وبساطة خصوصا أنه تمتع بكاريزما استطاعت أن تحبب الناس فيه وتجعله نجما ليس في الغناء فقط، بل في السينما أيضا حيث أغرمت به الممثلات وأصبح فارس أحلام كل فتاة، رغم قلة وسامته ونحالة جسده، وهي مواصفات لم تكن لتتطابق مع المواصفات المطلوب توافرها في بطل ذلك الوقت! ولا ننسى أن خلف تلك الموهبة والكاريزما وقف نجوم في التأليف والتلحين والإخراج آمنوا بصوته وعملوا معا على تقديم أفضل ما لديهم، خصوصا أن بعضهم سبق له أن تعاون مع كوكب الشرق أم كلثوم والتي كانت قد وصلت إلى القمة في ذلك الوقت، وهي حاولت التأثير سلباً في المغني الذي ما زال يرسم خطواته الأولى نحو النجومية، سواء في الحفلات المباشرة التي حضرها الرئيس جمال عبدالناصر وقادة الثورة أو في مناسبات أخرى.
تعاون عبدالحليم مع الملحن العبقري محمد الموجي وكمال الطويل ثم بليغ حمدي، ولاحقا مع موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب الذي غنى له مجموعة أغان منها “أهواك، نبتدي منين الحكاية، فاتت جنبنا”. كما شكل حليم مع بليغ حمدي ثنائيا ناجحا بالاشتراك مع الشاعر محمد حمزة وقدموا أغاني مازالت خالدة منها “زي الهوا، سواح، حاول تفتكرني، أي دمعة حزن لا، موعود” وغيرها من أفضل الأغاني العربية والتي يرددها مغنو اليوم من كبيرهم إلى صغيرهم، وخصوصا المغنيات ومنهن ماجدة الرومي ومن بعدها نوال الزغبي ونانسي عجرم.
بعد النكسة غنى عبدالحليم أجمل الأغاني الوطنية والرومانسية في حفلته التاريخية أمام 8 آلاف شخص في قاعة ألبرت هول في لندن لصالح المجهود الحربى لإزالة آثار العدوان، ليؤكد أنه فنان بحق، يعرف كيف يسخر موهبته في سبيل خدمة وطنه وكيف تتحول الأغنية من رسالة حب وعشق ورومانسية راقية، إلى رسالة وطنية حقيقية غير تجارية تحمل كل معاني الالتزام وبث روح الحماس في نفوس الشعوب والجنود على السواء، من أجل الدفاع عن الوطن، وكلنا نردد حتى اليوم أغنية “حكاية شعب” مثلا.
صحيح أن جيل اليوم من الفنانين يردد أغاني عبدالحليم حافظ ويحلم بالوصول إلى نجوميته، لكن شتان ما بين ترداد الكلام بشفاه باردة، وبين الروح التي بثها العندليب في أغنياته، فانطبعت فيها وكأنهما ممزوجان داخل الأسطوانات والأشرطة ولا مجال للتفريق بينهما، لتنتقل إلى كل من يسمعها دون أن تعريها السنوات من مشاعرها الصادقة.