كم مرة كتب الصحافيون، والكتاب عن "عبد الحليم حافظ"؟ .. لا أحد يعرف، ولا يمكن إحصاء حجم ما أثاره هذا النجم الراحل من موجات متتالية ومتناقضة من الجدل، أَحَب هذه.. وتَزَوّج تلك .. إلى آخر رحلات الغوص في أعماقه الإنسانية، وسَبْر أغوار هذا الفتى الذي كان يحيطه الغموض، وفضول الآخرين، لكن الشيء الوحيد الذي اتفق عليه الجميع هو موهبته، هو صوته الدافئ الحنون، وإحساسه المرهف، وتفانيه في إتقان أغانيه وأعماله.
وبعد أن رحل العندليب تاركاً ثروة فنية لا تزال ملايين الآذان العربية تستمتع بها، ولا تزال العديد من الأجيال تعيش على ضفاف حُنجُرته، ولا يزال صوت "حليم" أحد أهم رموز "الزمن الجميل".. فإن رحيل العندليب قد أطلق العنان للبعض أن يختلق لنفسه أدواراً، وأسراراً لا يعرفها سواه، واقتراباً من الحدث وأطرافه بأكثر مما اقترب منه الآخرون، وأصبحت سيرة، ومسيرة "عبد الحليم حافظ""سبوبة" يلجأ إليها مجموعة من "الأرزُقيّة" والطُفَيْليين، وهذا أمر كثيراً ما يحدث عندما يموت أحد المشاهير فيظهر بعده "الكومبارس" يُسهبون في شرح أدوارهم معه، وتتحول تلك الحكايات إلى صفحات في الصحف، والمجلات ويُضاف إليها كلَّ عام المزيد، والمزيد عند الاحتفال بذكرى رحيل هذا المشهور وهو ما يتكرر كل عام في ذكرى العندليب، ولكن كل هذا لا ينفي أن هناك كتابات جادة، وموضوعية لكتاب وأشخاص اقتربوا بالفعل من العندليب الراحل، وعايشوا الأحداث مثل "مفيد فوزي"، و"مجدي العمروسي"، و"محمود عوض"، و"عصام بصيلة"، و"نبيل عصمت"، و"فوميل لبيب"، وآخرين غيرهم.
وعندما أخذت أُقلِّب في أرشيف صوري الزاخر جداً بلقطات نادرة للعندليب الأسمر، وكذلك ما كتبته مجموعة من كبار الكتاب، أدركت أن إضافة شيء جديد أمر صعب للغاية، وأن أقصى ما يمكن تقديمه هو عمل "فلاش باك" على الكثير مما قيل، ونشر مع سؤال الأحياء من بين من عاشوا معه، واقتربوا منه ومعظمهم لحسن الحظ أساتذة وأصدقاء لي، لكن المشكلة التي واجهتني أن حياة "عبد الحليم حافظ" سواء الفنية أو الشخصية زاخرة بمئات المواقف، والأحداث التي يصعب أن يتضمنها كتاب، فأرشيف صور العندليب الأسمر قد سجَّل كثيراً من مراحل حياته خاصة المرحلة التي رافقه خلالها المصور الفنان "فاروق إبراهيم"، والذي يزخر بالآلاف من الصور النادرة.
العندليبُ الأسْمَرْ
الناقد الفني "جليل البنداري" كان أول من أطلق على "عبد الحليم حافظ" لقب "العندليب الأسمر"، وكان من أحب الألقاب على قلب "حليم" .. وبين "عبد الحليم" و"جليل البنداري" حكاية طريفة يرويها "مجدي العمروسي" صديق عمره، ويقول: لقد علم "عبد الحليم" أن "البنداري" كان يسب ويلعن كل من يجري معه حواراً صحفياً إضافة لكونه حاد الطبع، سليط اللسان، من أجل ذلك كان يتجنب أن يقع تحت يديه في حوار صحفي فيسمع منه ما لا يرضاه أو يقبله؛ في نفس الوقت كان "عبد الحليم" يعرف أن إجراء مثل هذا الحديث سوف يُضيف إليه الكثير، فذهب لصديقه "محمد حسنين هيكل" – وكان وقتها رئيس تحرير مجلة "آخر ساعة" – والتي كانت ستنشر الحديث وشرح له مخاوفه من لسان "البنداري" وشتائمه، وبعد أن استمع إليه "هيكل" باهتمام – قال له اسمع يا حليم .. بصراحة حديثك مع جليل البنداري مهم جداً لك وسيعطيك دفعة قوية.
- قال عبد الحليم.. أعرف ولكن ماذا عن شتائمه وهجومه.
- فرد عليه هيكل – بالعكس هو اللي بيشتكي منك وبيقول انك بتتهرب منه وبترفض إجراء الحديث معاه.. واعترف "عبد الحليم" بأن ذلك حدث بالفعل ولكن بسبب الخوف من الشتائم.
وفكر "هيكل" قليلاً ثم رفع سماعة التليفون متحدثاً مع "جليل البنداري" وقال: يا أخ جليل أنا عندي عبد الحليم حافظ وهو مرحب جداً بالحديث وسعيد جداً بيه.. رد عليه جليل :"ابعتهولي" .قال "هيكل": يا ريت يا أستاذ جليل تيجي تعمل معاه الحديث في مكتبي لأني عايز استمتع معاكم بالحوار، وبالطبع فهم "جليل" الهدف من مكالمة "هيكل" .. وجلس "البنداري" وأمامه "عبد الحليم"، وبدأ في طرح أسئلته، وكان أول سؤال ـ مكتوباً وليس مقروءاً - بحيث يراه "عبد الحليم"، ولا يراه "هيكل".
" انت جايبني قدام هيكل عشان ما اشتمكش يا بن الـ "........."؟ لكن "عبد الحليم" بذكائه كان يتظاهر بعدم رؤيته للشتيمة المكتوبة، وأخذ يجيب.. أنا مولود بقرية الحلوات في 21/6/1929م مركز "فاقوس"، "الزقازيق"، وواصل "عبد الحليم" الإجابة في وقار وجدية.
وظل "جليل البنداري" على هذا الحال يكتب في نهاية كل سؤال شتيمة قاسية – يابن كذا وكذا.. لكن "عبد الحليم" أيضاً ظل رابط الجأش، ولم تفارقه الابتسامة خلال الحوار، وكانت النتيجة أن قام "جليل" في نهاية الحديث يعانق "عبد الحليم" معجباً بذكائه وردوده الواثقة، وبعدها أصبح الكاتب، والناقد "جليل البنداري" واحداً من عشاق "عبد الحليم"، وأصدقائه المقربين، وقام بنشر كتاب عنه بعنوان "جسر التنهدات".
"اشمعنى" المغرب
ويقدم لي الفنان "فاروق إبراهيم" صورة نادرة من أرشيفه الذي يضم عشرات الآلاف من الصور؛ الصورة لـ"عبد الحليم" وهو يسقط على الأرض بعد خروجه من السيارة مغشياً عليه، وكان ذلك في تونس، كما يروي قصصاً كثيرة عن حب شعب المغرب لحليم، ويجيب صديق عمره "مجدي العمروسي" عن سؤال مهم "لماذا المغرب بالذات؟" فقد حفل المغرب بكثير من ذكريات حليم وسفرياته.. فيقول كانت مرحلة الخمسينات والستينات هي مرحلة التأسيس والكفاح في مسيرة عبد الحليم وكذلك شهدت بعض سنواتها شهرته وتألقه.. وراح "عبد الحليم" يجوب الأقطار العربية ويملأ سماءها بالغناء محلقاً في آفاق الشهرة والمجد، لكنه توقف ذات ليلة وهو يتأمل فيما حوله فوجد أنه لم يدع أو يغن في المغرب ولا مرة واحدة، فكان السؤال الذي ألح عليه "اشمعنى المغرب"؟.. ولماذا "فريد الأطرش" هو الذي يكتسح هذه الساحة وحده؟.. وبالفعل طلب حليم من العمروسي أن يذهب إلى هناك؛ إلى المغرب.. فكانت المفاجأة .. بل مفاجآت عديدة واجهها العمروسي وهو يسأل "إيه الحكاية"، وعلم أن جميع أفلام وأغنيات "عبد الحليم" ممنوعة من ست سنوات، وأن هذا المنع جاء من جهات عُليا، وهو ما يرمز إلى أن الملك نفسه هو سبب المنع شخصياً، وبعد محاولاته علم "مجدي العمروسي" سفير "عبد الحليم" أن وشاية خبيثة كانت وراء هذا التوجُّه "الملكي" عندما أبلغ بأن "عبد الحليم" أثناء خلاف الجزائر والمغرب غنى أغنية ناصَرَ فيها الجزائر ضد المغرب، وأن الملك صدق القصة دون أن يسمع الأغنية؛ أما الأغنية فكانت "قضبان حديد اتكسرت" والواقع أن هذه الأغنية أنشدها "عبد الحليم" بمناسبة الإفراج عن الخمسة الذين كانوا معتقلين في الجزائر، وعلى رأسهم "بن بيلا"، ونصحت شخصية مرموقة مجدي أن يكتب "عبد الحليم" خطاباً للملك "الحسن الثاني" يشرح فيه كل الملابسات، وتعهدت هذه الشخصية بتسليم الخطاب للملك بنفسه، وبالفعل كتب "عبد الحليم" رسالته للملك وشرح له حقيقة الأمر، واختتمها باستعداده للمحاكمة باعتباره مغربياً إذا ما ثبتت إدانته.
أُرسِل الخطاب للرباط، ومرت الأيام وفوجئ "عبد الحليم" بمدير الإذاعة المغربية يحضر للقاهرة لدعوته للغناء في عيد ميلاد الملك "الحسن"، فسارع "حليم" بتكليف "مرسي جميل عزيز" بكتابة أغنية للمناسبة، ويلحنها "بليغ حمدي" ليغنيها حليم في عيد ميلاد الملك فكانت :
الماء والخضرة والوجه الحسن
عرائس تختال في عيد الحسن
وانتشرت هذه الأغنية انتشاراً كبيراً في المغرب التي كانت تبثُّها من إذاعتها عشرات المرات، وتتردد في كل مكان، ومن يومها شهدت علاقة "عبد الحليم حافظ" بالمغرب، ومليكها تميزاً خاصاً، وأصبح "حليم" مسئولاً عن تنظيم حفلات القصر يدعو فيها من يشاء من فنانين.
مع المُوجي والطَّويل وبَليغ
مرت علاقة عبد الحليم بالملحنين الذين عملوا معه بمراحل عديدة ومثل كل منهم بصمة في مسيرته، فقد شهد كل من محمد الموجي وكمال الطويل مرحلة البداية، ورغم ما قدماه في مسيرة عبد الحليم من روائع لكن مشاعر الغيرة لم تقترب منهما وسارا معاً مشوارهما الطويل بجوار حليم، فقد كان لكل منهما خصائصه ومميزاته وطابعه، كان الطويل غزير الموهبة والجملة الموسيقية لديه شديدة الثراء وبسيطة في نفس الوقت، كما برع "كمال الطويل" في تلحين الأغاني الوطنية التي تمثل مرحلة مهمة في مسيرة "عبد الحليم حافظ".
أما الموسيقار "محمد الموجي" فقد كانت موهبته مقرونة بالعلم وأصول الصنعة وكانت بدايته مع حليم في أغنية "صافيني مرة" و "يا مواعدني بكرة" ثم قدما مجموعة من الأغاني الخالدة التي سطرت بداية رحلة النجاح والمجد التي شهدت من ألحان الموجي روائع خالدة خاصة قصائد "قارئة الفنجان"، وحبيبَها، و"رسالة من تحت الماء"، وغيرها.
ووسط تألق الموجي والطويل ظهر بليغ حمدي ولفت الأنظار بشدة عندما قدم مذاقاً جديداً في أغاني "عبد الحليم" من خلال لحنه "تخونوه" وبدأت موهبة بليغ ورغبته في تطوير "الفلوكلور" فلقي هوى في نفس "عبد الحليم" لتبدأ مرحلة أخرى أفرزت أغنيات "سواح"، و"التوبة"، و"على حسب وداد قلبي" وغيرها، وقد وجد هذا اللون استجابة وصدى كبيراً أُضيف إلى رصيد كليهما.
إِعجابٌ مُشْتَرك
أما علاقة العندليب الأسمر بموسيقار الأجيال "محمد عبد الوهاب" فقد تميزت بالخصوصية، أحبَّ عبد الوهاب حليما حباً جماً وكان يرى فيه مزايا فنية عديدة، فهو ذو أذن دقيقة واعية، والواقع أن "عبد الحليم" تعلم فن الحياة على أيدي مجموعة من العباقرة من بينهم "عبد الوهاب" الذي كان يعشق من بين أغانيه "يا اللي الهوى خالك"، وعلى الرغم من الإعجاب المشترك بين النجمين الكبيرين لكن التعاون الفني بينهما جاء متأخراً، إلا أن الأعمال التي قدماها كانت في قمة الروعة مثل – أنا لك على طول – توبة – شغلوني – أهواك – ظلموه – قولي حاجة – لست قلبي – ضي القناديل – لا تكذبي وغيرها من الأغاني التي بلغت 29 أغنية.
مِشْوارُ حيَاتِهِ بالصُّوَر
إن حكاية المصور الفنان "فاروق إبراهيم" مع "عبد الحليم حافظ" تضم تفاصيل شائقة يرويها "فاروق" قائلاً: بدأت مع عبد الحليم من بداية المشوار.. مشوار صعب مليء بالأشواك، ومليء بالزهور أيضاً، لقد تقابلنا في مرحلة الفقر لكن الفارق أن ما كنت أكسبه أنا كنت أنفقه وحدي، أما ما كان يكسبه هو فقد كان ينفق ثلاثة أرباعه على الأدوية، ويمضي "فاروق إبراهيم" قائلاً: "عبد الحليم" كان صاحب الفضل في نجومية كل من اقتربوا منه؛ أخذ بأيديهم جميعاً للأمام وبصراحة هو كان صاحب فكرة أن يؤرخ حياته بالصورة، وكان أول فنان يكون له مصور خاص، لقد صحبته في كل سفرياته وأخذت له أماكن مميزة للتصوير وسجلت كل لحظات السعادة والألم والإبداع في حياته .. إن لدي أكثر من 150 ألف صورة لحليم.
وأترك رواية "فاروق إبراهيم" قليلاً لألتقط خيط هذه العلاقة المميزة من مذكرات مجدي العمروسي الذي يقول: لم يحدث أن رأينا عبد الحليم معجباً أو منبهرا بمصور معين، وفجأة وجدت "عبد الحليم" يصاحب "فاروق إبراهيم" ويحضره معه للمنزل باستمرار، وكان عبد الحليم لا يتركه أبداً يذهب قبل أن يتناول معنا طعام الغداء أو العشاء، ولم أسمع عبد الحليم يتحدث معه أبداً في التصوير أو أن يطلب منه أن يصور له أي مناسبة، لكنها كانت مجرد صداقة..
وكان عبد الحليم يهوى التصوير، ويمضي بعض الوقت في تعلم أصوله حيث اكتسب هذه الهواية من صديقه الدائم الشيخ "كمال أدهم"، وذات مرة عاد "عبد الحليم" من إحدى سفرياته حاملاً مجموعة من أحدث الكاميرات العالمية وأحضر "فاروق إبراهيم" للمنزل وسأله كمصور محترف عن رأيه فيها، وبعد أن قلب فاروق في الكاميرات صاح بصوت عال.. الله يا عبد الحليم يا محترف يا ذوق يا صاحي.. إزاي عرفت تختار المجموعة الرائعة دي؟.. دي أمنية أي مصور في الدنيا .. دا أنا بيها أعمل البدع .. رد عبد الحليم :طب يا سيدي حنشوف.. اسمع يا فاروق الكاميرات دي بتاعتك.. فقام فاروق واحتضن عبد الحليم وقبله قائلاً.. ياللا ناخد أول صورة.
قال حليم.." اسمع يا فاروق من النهاردة لن تفارقني في أي حفلة أو فيلم أو سفرية وورينا يا عم إزاي تكون الصور".. ومن هذا اليوم أصبح فاروق إبراهيم الرفيق الخاص لعبد الحليم.
ونعود لفاروق إبراهيم الذي يروي لنا حكاية بعض الصور التي التقطها لعبد الحليم.. ويقدم إحدى هذه الصور قائلاً: في هذه الصورة كان حليم يغني أغنية فيلم "لا" ولم يكمله وسقط على الأرض وقمت بتصوير هذه اللقطة في 8 كادرات، وبالرغم من وجود مصور فرنسي فلم يصورها، وأصبحت الصورة التي التقطتها هي أحد مشاهد الفيلم، وساعتها قال لي عبد الحليم: " شايف الفرق بقى بين المخ الفرنساوي والمصري؟".
كان "عبد الحليم حافظ" مثله مثل كل المشاهير تحوطهم الشائعات والمتطفِّلون وتنسج حولهم الحكايات والخيالات؛ الأمر الوحيد الذي ينفرد به هو كونه مطرباً رقيقا استطاع أن يستحوذ على قلوب الشباب ومشاعرهم بأغانيه الملتهبة بأحاسيس الحب والغرام والفراق، وأن يجد كل شاب وفتاة فيه نفسه وكأنه يعبر عنه شخصياً حتى أصبح "عبد الحليم حافظ" حالة فريدة؛ من هنا فقد كان التفاف الشباب في الزمن الجميل حول حُنجُرة حليم، وأغانيه نوعاً من رجع الصدى، لذلك كان لإشاعات الحب والزواج بالنسبة له مذاق خاص.
ومع الروايات الكثيرة التي ترددت حول قصص حب العندليب نتوقف مع إحداها.. فقد كانت قصة الحب الأولى في حياته عندما ارتبط بخطوبة حقيقية من فتاة صغيرة بإحدى قرى مركز "أبو كبير" بالشرقية.. الفتاة اسمها "فاطمة" أو "طاطا" كما كان "عبد الحليم" يطلق عليها – وتروي "فاطمة" صاحبة القصة قائلة: منذ أن أتيت إلى قرية "الحلوات" عشت في منزل "عبد الحليم شبانة" أكثر مما عشت مع إخوتي، فقد أخذتني خالتي السيدة "زينب" من زوجة الحاج "متولي عماشة" خالة عبد الحليم وأنا رضيعة حتى وصلتُ إلى الرابعة عشرة، وكان عبد الحليم يلازمني بصفة دائمة وسمعته كثيراً وهو يقول لخالتي "عهد يا ماما "زينب" تخطبي لي" بطة" .. وبالفعل تمت الخطبة ولم يكن عمر فاطمة قد تجاوز 9 سنوات بينما كان عمر حليم وقتها 18 سنة، وكثيراً ما كان يأخذها إلى الزقازيق للفسحة، ومرت السنين إلى أن انقطعت هذه العلاقة بعد زواج "فاطمة عبد السلام" من رجل آخر، بل إنها لم تستطع زيارة عبد الحليم أثناء مرضه حيث كانت التقاليد الصارمة تمنع ذلك.. لكن السؤال بقى مطروحاً.. هل كانت "طاطا" هي حب حليم الحقيقي؟.
حبٌ منْ أوَّلِ نَظْرَة
الحكايات كثيرة ومنها ما يؤكد أن أهم حب في حياة العندليب كانت فتاة رائعة الجمال – عيناها زرقاوان كحيلتان يفوق سحرهما أي جمال شاهده "عبد الحليم" في حياته، كان شعرها الناعم الطويل يتوج بشرتها السمراء الخمرية ذات الجاذبية الخاصة .. كانت " ديدي" التي أحبها حليم من أول نظرة منذ أن رآها في الإسكندرية، وهي ملهمته في أغنية "كان يوم حبك أجمل صدفة" لكن المشكلة أن "ديدي"، وهي ابنة أحد أعيان الشرقية، وأثريائها كانت قد تزوَّجت من رجل من أكبر عائلات الصعيد، ويعمل في السلك الدبلوماسي، ورغم عدم توفيقها في هذا الزواج، ومحاولاتها المستمرة للخلاص من زوجها للارتباط بعبد الحليم لكنها فشلت، وهو الأمر الذي جعلها تيأس من حياتها، ويشاء القدر أن تُصاب محبوبته الأثيرة بمرض خبيث في المخ، وتودع الحياة دون أن يتبخر حبها من قلب حليم الذي ظل يعاني طوال سنوات مرضها وغنى لها "في يوم في شهر في سنة" .. ويذكر الفنان فاروق إبراهيم المصور الذي لم يفارق عبد الحليم طوال مسيرته فيقول عن هذه العلاقة :تعرف حليم على "ديدي" بالإسكندرية وأحبها بشدة، وذات يوم مر عليهما أحد البائعين المتجولين على "البلاج" يحمل خواتم فاشترت من هذا البائع دبلة وألبستها لحليم .. هذه الدبلة ظلت في إصبعه سنوات طويلة لا يخلعها ورغم أنها دبلة رخيصة لكن الغريب أنها لم تصدأ في يد عبد حليم.
وتؤكد "زينب عبد القادر" – سكرتيرة عبد الحليم الخاصة أن "ديدي الألفي" هي المرأة الوحيدة التي أحبها "عبد الحليم" في حياته حباً حقيقياً، وعلى الرغم من معارضة أهلها لعلاقتها به، لكنها تحدت الجميع حتى وصل الأهل إلى قناعة باستحالة ابتعادها عن طريقه، وقام والدها "إبراهيم الألفي" بإهدائه شقة في عمارته بسيدي بشر بالإسكندرية، وأضافت سكرتيرة العندليب أن رنين التليفون لم ينقطع يوماً بين العاشقين، كما تؤكد أن العلاقة بين "ديدي وحليم" لم يكن مقدراً لها أن تنتهي بالزواج، فقد كان العندليب ممنوعاً من الزواج بأمر الأطباء، وجميع الشائعات التي تقول أنه تزوج لا أساس لها من الصحة.
بين المَغْربيّة، واللبنانيّة
وقد شاع في فترة أن عبد الحليم ارتبط عاطفياً بفتاة مغربية وتدعى "فاطيما" .. كانت امرأة مختلفة عن كثير من النساء التي عرفهن عبد الحليم وظلت العلاقة بينهما تتطور يوماً بعد يوم، لكن المشكلة أن هذه المرأة كانت زوجة لشخصية رفيعة جداً في المغرب تردد وقتها أنه الجنرال "أوفقير" وزير الداخلية القوي آنذاك، والذي تم إعدامه فيما بعد إثر انقلاب فاشل، وقد سافرت "فاطيما" إلى باريس بعد الحادثة لكن حليم كان قد قرر إنهاء هذه العلاقة خوفاً من تداعياتها.
وقصة أخرى بطلتها مليونيرة لبنانية شقراء ظلت تطارد العندليب، لكن ما حدث أن معجبة أخرى كانت قد تعرفت عليه لم تتورع عن كشف تفاصيل العلاقة للصحافة اللبنانية، لتطوي هذه القصة أيضاً.
وكثيرة هي القصص والحكايات عن أسماء النساء في حياة العندليب من بينها اسم شقيقة المطربة "عزة بلبع"، والتي بذلت أسرتها جهداً كبيراً في إبعادها عنه، وهناك أيضاً إشاعة وقوع حليم في حب الفنانة "زبيدة ثروت" أثناء عملهما معاً في فيلم "يوم من عمري" ..
لكن المقربين من عبد الحليم كان لهم رأي آخر في تلك الحكايات والشائعات؛ فهذا هو الشاعر الراحل "كامل الشناوي" يؤكد أن حليم لم يحب في حياته سوى مرة واحدة؛ أما الحالات الأخرى لم تكن سوى وهم يعيشه عبد الحليم، فقد تملَّكه الحزن، والخوف من شبح "النزيف".
والأمر المؤكد أن عبد الحليم حافظ قد عاش قصصاً عاطفية غير مكتملة ولابد أن قلبه قد خفق يوماً لامرأة أو أكثر، ولم تكن "ديدي"، و"بطة"، و"فاطيما" وغيرهن هن كل من أحب عبد الحليم، ولا شك أن العندليب عشقته الكثيرات وأنه كان فتى أحلامهن.
وأخيراً.. "سُـعَاد حُسْني"
رغم مرور قرابة الثلاثين عاماً على رحيل العندليب الأسمر، ومرور خمس سنوات على وفاة السندريلا "سعاد حسني"، لكن السؤال لا يزال مطروحاً: هل تزوج "عبد الحليم" و"سعاد"؟
لقد استطاع الكاتب الكبير "مفيد فوزي" تفجير قنبلة عندما انتزع اعترافاً من السندريلا - نشر في مجلة صباح الخير وضمه كتابه "صديقي الموعود بالعذاب" – بأنها تزوجت حليم عُرفياً لمدة ست سنوات كاملة، وأن لديها أوراقا تثبت هذا الزواج؛ هذه الأوراق التي لم تقدمها "سعاد حسني" للمحاور "مفيد فوزي"، والتي لم تظهر أيضاً حتى الآن بعد مرور كل هذه السنوات؛ بل راح القريبون من عبد الحليم ينفون بشدة أن يكون هذا الزواج قد تحقق، ويقول مجدي العمروسي: الحقيقة أن سعاد وحليم قد اتفقا على الزواج وذهب جليل البنداري وحسن إمام عمر وأحضرا المأذون إلى منزل سعاد حسني لعقد القران ولكن كان بانتظارهما صدمة كبيرة هي رفض سعاد حسني الزواج من عبد الحليم عندما قالت أنها لا تنكر حبها الكبير لحليم وهذا ما يمنعها من الزواج به !!
ويضيف مجدي العمروسي: لا شك أن معاشرة عبد الحليم لسعاد حسني، وتواجده عندها في كثير من الأحيان، قد تسبب في بعض الأقاويل، وكثير من الهمسات والتلميحات، فقد صحب "حليم" "سعاد" في إحدى رحلاته الفنية إلى شمال أفريقيا، واشترى لها خلالها كماً كبيراً من الملابس والمتطلبات التي أثارت الأقاويل، لدرجة أنهم قالوا إنه يشتري لها لوازم الفرح، وأن الزواج أصبح وشيكاً، وعندما عادا إلى مصر انتظر الجميع الخبر السعيد، لكن لم يحدث شيء من ذلك، وعندما جلست إلى "حليم" أسأله عما يتردد من شائعات زواجه من "سعاد" والمشتريات المهولة التي اشتراها لها قال: يعني معقول يا مجدي يبقى فيه جواز من غير انت ما تعرف أو أي حد من أهلي،.. انت يا مجدي مش عارف رأيي في حكاية الزواج.. وأنه ليس من مشاريعي الحالية أو المستقبلية.
ولم يوافقني عبد الحليم على تكذيب الإشاعة قائلاً: لو كذبت الإشاعة أبقى أحرجتها بلا أي سبب.. أترك الموضوع فالأيام كفيلة تقتل هذه الشائعات.
ويواصل مجدي العمروسي أقرب أصدقاء عبد الحليم حافظ إلى قلبه ومدير أعماله وخزينة أسراره معلقاً عما نشره الكاتب الكبير مفيد فوزي فيقول: الأستاذ مفيد نجح بامتياز في خبطته الصحفية وارتفع بتوزيع صباح الخير ليتضاعف إلى ثلاثة أضعاف أو أكثر خلال الأسابيع الخمسة التي نشرت فيها هذه القصة.. لكن "مفيد فوزي" رد على "العمروسي" حول قضية الزواج فقال: إن "سعاد حسني" صادقة فيما روته لي مُسَجَّلاً عن زواجها غير المعلن والتي أنهته "سعاد" حين أصر "حليم" على سريته، إلا أن الكاتب الكبير الراحل "مصطفى أمين" الذي كان قريباً من "عبد الحليم"، ويعرف كل شيء عن أسراره.. يقول:
من غير المعقول أن يكون هناك زواج مدته 6 سنوات بين أشهر نجم في مصر وأكبر نجمة ولا يعلم عنه أي إنسان، وإذا كان صحيحاً أين هذا العقد ومن شهوده؟
هذا الرأي يؤكده المصور "فاروق إبراهيم" ويقول: أنا أمتلك عشرات آلاف الصور لعبد الحليم من بداية حياته حتى رحيله، فهل يعقل أن "سعاد حسني" كانت زوجة له ولم يضم أرشيف صوره عندي سوى صورة واحدة لهما؟.. وأتساءل لماذا بدأ الحديث عن زواجهما بعد رحيله بسنوات؟ إضافة إلى أن "عبد الحليم" كان يمتلك شركة إنتاج سينمائي مع الأستاذ "عبد الوهاب"، ومع ذلك لم تقم "سعاد" ببطولة أفلام من إنتاج شركته؛ الشيء المؤكد أنهما كانا صديقين، وأن بينهما إعجاباً فنياً متبادلاً؛ أما مسألة الزواج هذه.. فاسمح لي!
الرِّحْلةُ الأخيْرة
ولا يستطيع أي وافد على حياة العندليب الأسمر أن يمر دون التوقف عند محطة "عذاباته" مع المرض، وكان أكثر محطاته مرارة هو ما كان يردده حُسَّادُه من أن "حليم" يدّعي المرض لكي يحصل على مزيد من تعاطف الجماهير، وهو ما ثبت عكسه مع الأيام، فقد كان مرضه عُضالاً، ولم يكن هناك أمل كما قال طبيبه الإنجليزي "روجرز" سوى زرع كبد جديد، وفي هذا الوقت لم تكن هذه الجراحة متقدمة، وحاول الطبيب أن يقنع "حليم" بأنه قد أجرى عشرين عملية زرع كبد نجح منها 12 عملية، وظلوا على قيد الحياة، لكن "عبد الحليم" صمم أن يراهم بنفسه ويناقشهم، وبالفعل تراجع وقرر أن يجري العملية، وبدأت الاستعدادات التي تسبقها وكان لابد من عملية "الحقن" لإيقاف النزيف، وطالت العملية هذه المرة عن الوقت المعتاد لكن المفاجأة أن جرس الغرفة ظل يضرب بشكل متواصل، وعندما هرع زوار "حليم" المنتظرون بالخارج فوجئوا بأرض الغرفة مكسوة جميعها بدم غزير لتدق أجراس الإنذار، ويتم استدعاء الأطباء الذين وصل عددهم إلى 12 طبيباً تجمعوا حول سرير "حليم"، وراحوا يُجرون الإسعافات اللازمة، ومن بينها وضع جهاز أخذوا يدخلونه في فمه وهم يرجونه أن يبتلع قربة الجلد الناعم، وهو ينظر إليهم في ضعف ويأس، فقد كان ابتلاعه لهذه القربة سوف يملؤها بالهواء لتضغط على جدار المعدة، وتسد الأوعية الدموية التي انفجرت في المعدة، لكن "حليم" فشل في ابتلاع القربة بالكامل لتصعد روحه إلى بارئها، ليخرج الأطباء وهم مطأطئو الرأس، تتفجر دموعهم في حسرة، وألم، فقد فعلوا كل شيء لكن إرادة الله كانت لها الكلمة العليا.
لينتهي مشوار "حليم"؛ مشوار حافل بالشهرة والمجد، بالنجاح والإخفاق والسعادة والألم، ورغم محاولات أصدقائه من الأمراء في أن تتولى طائراتهم الخاصة نقل جثمانه، لكنه كان قد أوصى صديقه الأثير "مجدي العمروسي" أن يُنقل جثمانه إلى مصر على إحدى طائرات مصر للطيران ..
ويقدم لنا "العمروسي" في كتابه "أعز الناس" إحصائيات غريبة فقد ولد "عبد الحليم حافظ" عام 1929م وغنى لأستاذه وصديقه "عبد الوهاب" 29 لحناً، توفى وعمره 48 عاماً، وغنى 48 لحناً وأغنية وطنية، عاش 17199 يوماً أي 47 سنة و9 أشهر و 9 أيام؛ أما عدد الأفلام التي قام ببطولتها فكان 16 فيلماً غنى فيها 77 أغنية، وكان عدد الممثلين والممثلات الأوائل الذين مثَّلوا أمامه 77 فناناً وفنانة وتوفى عام 1977.
رحم الله "عبد الحليم حافظ" بقدر ما أسعدنا سنوات طويلة ولا يزال.