العذاب والحب في رسائل شخصية أرسلها لي عبدالحليم من لندن!
فؤاد معوض
مجلة الفجر
كل شيء قابل للوصف..
حتي تلك الشجرة الحزينة التي تبدو ذابلة!.. الشجر في هذا الموسم بالذات- دائما- تكسوه الحياة.. السيقان ينعشها الربيع فتهتز.. تتمايل.. ترقص في وضوح وكأن في داخلها فرقة عوالم كاملة!.. هناك شجرة وحيدة تبدو منكسرة.. ذابلة .. جافة.. ربما تعبير عن الألم الذي تحمله كلمات منقوشة فوق جذعها و«وداعا يانجمي الأوحد.. ولأن الأيام مريضة.. ولأن الليل الموحش يولد فيه الرعب.. لن نجني الحب»!.. عبدالحليم حافظ يطل علي هذا الألم مباشرة.. عندما تتفتح -كل صباح- عيناه ويقع بصره علي حديقة الأسماك التي تقع أمام منزله.. الشجرة في اتجاه شرفته تماما.. و..
* موعود بالعذاب ياعبدالحليم.. تصور يوم مولدك.. اطلقت والدتك صرخة ألم.. أه.. كانت الآه واضحة.. والدتك مريضة أولا.. في الوقت نفسه تعاني من حالة وضع.. الصرخة كانت مضاعفة.. أخذ بيدها كل من كان بجوارها بقولهم: شدي حيلك ربنا معاكي!..
بعد لحظات سمع الملتفون حولها صراخك: واء!.. واء!.. امتلت الأيدي لتستقبلك من جوارها وهي مطبقة باطرافها عليك في صمت!.. من المفروض أن تستقبلك الأيدي بزغرودة تنطلق من الفم كالعادة في مثل هذه المناسبات ياولدي!.. حدث العكس!.. الأب يحاول جاهدا أن يتماسك.. اطلقت احدي السيدات صياحها!.. مصمصت ثانية شفتيها!.. شقت ثالثة ملابسها!.. وضعت رابعة التراب فوق رأسها!.. اتخذ شقيقاك «اسماعيل» و«محمد» ركنا من الحجرة وراح كل منهما يبكي!.. «علية» كانت تنظر حولها لاتعي شيئا!.. أنت مثلها تماما لاندرك ما يحدث حولك!.. لطفك يارب.. ماذا حدث؟!.. ماتت والدتك ياحليم وهي تقدمك للحياة مطبقة الأيدي بكل أطرافها حرصا عليك.. توصي الوالد قائله له: ضعه في «نني» العين يا أبو اسماعيل ... و...
* موعود بالعذاب ياعبدالحليم.. فقد مات الأب بعدها بسنوات.. تولي رعايتك «الخال».. وضعك بالفعل في «نني» العين.. أدخلك المدرسة الابتدائية.. اعطاك المصروف.. اشتري لك حذاء جديدا في صبحية «الوقفة» قبل العيد بيوم واحد.. اعتني أيضا بالاشقاء.. «اسماعيل» ماشا الله أوشك علي الانتهاء من دراسته للموسيقي.. لايترك من يديه -ابدا- ذلك الكتاب الكالح القديم «تطريب الآذان في صناعة الألحان»!.. «محمد» علي وشك أن يتسلم الوظيفة.. سيتمرغ عما قريب في تراب «الميري»!.. أنت مشدود دائما للأسطي «عباس» المكوجي البلدي المجاور للمنزل.. مشدود باستمرار للحفلات الخارجية التي يذيعها الراديو الذي يملكه.. حفلة أول يناير عام 1937.. صالح أفندي عبدالحي في دور «حبيت جميل طبعة الدلال.. بالبدع والتيه اثناني.. أمتي يتوب عن الخصام وأقول حبيبي هناني».. حفلة 15 مارس عام 1938.. الآنسة سعاد زكي وتأليف نعيم مصطفي وتلحين داود حسني في دور «يافؤادي شكوتك في الحب طالت.. والحبيب هاجر وناسي العهد ليه.. والعيون ياما بكت ودموعها سالت.. بس قصد الحب من ده كله أيه»؟!.. لاحظت عليك «الخال» هذا الاهتمام.. اكدته أكثر عمليات «الدندنة» الصادرة من غرفتك وأنت تؤدي في انسجام دورا علي ما أظن للمرحوم عبدالغني أفندي السيد.. «غاب بدري عن عيوني.. بعد أن ذقت رضاه.. لست أدري خبروني.. كيف ينساني هواه»!.. قرر «الخال» الحاقك بملجأ الأيتام لتتعلم أصول الموسيقي والغناء ..و..
* موعود بالعذاب ياعبدالحليم.. وفي الملجأ نلت اعجاب كل الأساتذة.. أستاذك «محمود حنفي» نطق عند سماعه لك بكلمة كروان!.. أستاذك «محمود ندا» شهد أمام الجميع بالمستقبل الباهر لك!.. الجميع اتفقوا علي ذهابك للقاهرة وتجربة حظك.. «اسماعيل» كان قد سبقك الي هناك.. تري هل تحقق ولو جزء صغير من ذلك الحلم الكبيرالذي كان يحلمه ذات يوم وبأن «صيته» سيملأ كل فراغ الفضاء؟! عام 1941.. محطة الزقازيق.. القطار القادم من أبوكبير في طريقه للقاهرة سيصل علي رصيف رقم 4 في تمام الواحدة وخمس وثلاثين دقيقة.. سميط وبيض.. أشرب كازوزة بثلاثة أبيض ياعطشان.. شيال يابيه!.. وقف الموكب الصغير من أفراد العائلة يلوح لك بالوداع وأنت تضع «الصرة» التي تحمل بداخلها ملابسك في الدرجة الثالثة من القطار.. نطقت «علية» بالوصية.. أوصيك بالرقة في معاملتك له يامصر يا أم الدنيا!.. ندرن علي يا أم هاشم أولع لك صوابعي العشر شمع ..و..
* موعود بالعذاب ياعبدالحليم.. ياه!.. منذ عام 1941 وحتي هذا التاريخ مازلت تجرب حظك.. واحد غيرك كان قد انسحب! لا يصنع الفنان العظيم سوي ألم عظيم كما قال «فولتير».. اثنا عشر عاما هي المدة من ذلك العام وحتي صيف عام 1953.. مسرح حديقة الأندلس.. الساعة العاشرة تماما.. المسرح يقف عليه مطرب جديد اسمه عبدالحليم حافظ.. الأغنية التي يترنم بها تقول «صافيني مرة.. وجافيني مرة.. ولاتنسنيش كده بالمره».. لون جديد من الطرب يتسلل الي أعماقك في هدوء ويحتل كل كيانك.. «رأي كمال الطويل»!.. صوت يمتاز بالعمق وصدق التعبير.. «رأي محمد الموجي»!.. صوت يتمتع بجاذبية وسيطرة لا جدال فيها علي أسماع الناس.. «رأي كمال النجمي في كتاب الغناء المصري ص 145»!.. أصبحت مشهورا يا عبدالحليم.. شهرتك حولت الكثير ممن سبقوك في هذا المجال إلي اطلال!.. محمد فوزي.. عبدالغني السيد.. عبدالعزيز محمود.. محمد الكحلاوي.. كارم محمود.. شفيق جلال.. محمد أمين.. وكلهم كان لهم جمهور وناس تقذف بالطرابيش في الهواء من شدة الاعجاب عندما تستمع إليهم.. ولكن - ياخسارة- كان المشوار قد أخذ من صحتك الكثير .. و..
* موعود بالعذاب ياعبدالحليم.. بدليل ذلك الخطاب الذي سطرته ذات يوم.. بالتحديد في 22 أغسطس عام 1964.. «أكتب لك من لندن بعد وصولي لها بساعتين .. توجهت الي الدكتورة «شيلا شيرلوك» أخصائية الكبد في العالم.. بقيت في عيادتها ساعتين ونصف ساعة.. كشفت علي جيدا.. تعرف كل شيء عني منذ أن داهمني النزيف الداخلي عام 1956.. وعن طريق آلة طبية حديثة أخذت عينة دم من الكبد.. قالت لي بعدها وهي تدق بيدها علي صدرها «ياخبر»!.. الدكتور «ايفري جونز» للجهاز الهضمي!.. الدكتور «فرجسون» للكلي!.. الدكتور «هانت» للرئتين!.. الدكتور «تانر» للمعدة!.. واجتمع الأطباء الخمسة وقرروا أن حالة النزيف التي تحدث لي هي نتيجة المجهود الجسماني والذهني الذي أبذله فوق طاقتي!.. سأكتب لك رسالة ثانية بكل التفاصيل.. احفظ الآن قصيدة من شعر «كامل الشناوي».. سأغنيها عند عودتي.. «أنت قلبي فلا تخف.. واجب هل تحبها؟!.. والي الآن لم يزل فيك حبها؟!.. لست قلبي أنا إذن.. أنما أنت قلبها».. و..
* موعود بالعذاب ياعبدالحليم.. بدليل ذلك الخطاب الثاني الذي وصلني تصف فيه أخطر أزمة مرت بك خلال مرضك.. «مرت الأزمة أخيرا بسلام.. لقد اخفي الدكتور «تانر» وممرضات مستشفي «سان جيمس» حقيقية الخطر حتي زال تماما!.. لقد تبين أن منطقة الضعف عندي تنحصر في الأوعية الدموية المتصلة بآخر المريء.. وعندما توصل الأطباء الي هذه النتيجة تقرر اجراء خطة جديدة في العلاج وتتلخص في حقن الأوعية في تلك المنطقة - بطريقة مباشرة- حتي تتعطل أو تتجمد وتمنع من أداء وظيفتها وفي مثل هذه الحالة فإن طبيعة جسم الانسان تخلق تلقائيا أوعية جديدة تلتثم وحدها وتسير بالدورة الدموية في طريق طبيعي!.. أما تناول تلك الحقن فهو أشق أمر في الموضوع كله.. بل تعتبر كل حقنة منها عملية كاملة اتناول فيها مقدارا من البنج الكامل ويدخلون لي من خلال الفم منظارا ليتمكن الطبيب من تحديد المنطقة ثم يغرس حقنة لها ممر إلي الأوعية لتحقنها بالدواء مباشرة.. وعلي ذلك فعندما يتم هذا العلاج بنجاح -كما هو مرجو- سوف اتخلص من تهديد النزيف لي لعدة سنوات قادمة.. الحمد لله.. سأصبح سليما مائة في المائة!.. لن أجد الوقت حتي أكتب لك رسالة ثالثة فسوف أصل للقاهرة قريبا.. حكي لي «منير مراد» المرافق لي في رحلتي آخر نكتة.. واحد «حلاق» شاط الكورة جت في المقص!.. هاها.. بايخة مش كده .. و..
* موعود بالعذاب ياعبدالحليم.. الجرائد والمجلات كانت تنشر في صفحاتها بابا ثابتا عن صحتك.. «تمت العملية بنجاح.. مضت سنة وسنتان ولم يحدث شيء!.. جاء النزيف الأخير بسبب السهر والاجهاد»! عبدالحليم لايستطيع أن ينام قبل السادسة صباحا.. يتظاهر بالنوم حتي يطفئوا الأنوار ويتصرف كل من في البيت الي غرفته ثم يتسلل من تحت «اللحاف» ويرتدي ثيابه ليخرج علي أطراف أصابعه إلي الجراج ثم يستقل سيارته وينطلق باحثا عن أصدقائه السهاري!.. جريدة الأخبار في 19 نوفمبر عام 1970.. «تدهورت صحة عبدالحليم حافظ.. وقع مغشيا عليه وعند الكشف أتضح أنه مصاب بمرض الصفراء.. منع الأطباء عبدالحليم من مغادرة الفراش لمدة شهر كامل.. سبب هذه النكسة الشديدة في صحته «حقنة خطأ» اعطيت له أثناء وجوده بمستشفي المواساة في الاسكندرية حيث رقد فيها أسبوعين بعد أن أصيب بنزيف مفاجيء أثناء جلوسه علي شاطيء العجمي!.. قال اصدقاء عبدالحليم أن سبب مرضه الأخير هو ارهاقه الشديد في العمل .. و..
* موعود بالعذاب ياعبدالحليم.. فقد سافر بعد شفائه علي الفور الي المغرب بدعوة من هناك لاحياء بعض الحفلات.. أخبار اليوم في 20 مارس عام 1971.. «عبدالحليم حافظ أصيب بنزيف مفاجئ في المغرب.. أمر الملك الحسن بنقله في طائرة خاصة من فاس إلي الرباط.. عبدالحليم يرقد حاليا في مستشفي الرباط تحت العلاج»!.. تم الشفاء والعودة للقاهرة.. باق من الزمن علي احياء الحفل الذي أعلن عنه أيام!.. أغنية جديدة من كلمات محمد حمزة وتلحين بليغ حمدي.. لابد من اجراء البروفات ولكن في المنزل هذه المرة.. المرة الوحيدة التي لايستطيع فيها عبدالحليم أن يخرج علي قدميه أو يتسلل -كعادته- من تحت «اللحاف» ويرتدي ثيابه ليخرج حتي ولو علنا لإجراء بروفة الأغنية الجديدة.. لابد من اجراء البروفة.. ولكن في المنزل وتحت إشراف أربعة من الأطباء..سهرة الربيع مساء الأحد 18 أبريل 1971 أراقب «حليم» عن قرب وهو يغني.. محاولا في جهد خارق ألا يبدو مريضا امام الجمهور.. مريض ولكنه يكره.. ويعاند.. ويدافع في كذب واضح عن صحته حتي لايقال عنه إنه مريض!.. بجوار أحمد فؤاد حسن كوب من المياه المعدنية ليشرب منها عبدالحليم عند جفاف حلقه!.. معدة عبدالحليم لاتحتمل ثقل المياه العادية.. افطاره أيضا خفيف.. قطعة من الجبن الأبيض غير المملح.. وخمس حبات «بالعدد» من الفول المدمس المصفي بزيت الزيتون!.. غذاؤه يتكون عادة من الخضار المسلوق ونصف كتكوت وسلطة خضراء وبعض الفاكهة!.. الناس تستقبل عبدالحليم بالدعاء.. «ربنا يديك الصحك يا حليم»!.. «ربنا معاك يا عندليب!».. الدعاء يختلط بالغناء.. «السما بتبكي علينا.. والناي الحزين.. حتي نجوم ليالينا.. والقمر غايبين.. وتاني .. تاني.. تاني راجعين <