أنساك.. ده كلام.. أنساك يا «حليم» أهو ده اللي مش ممكن أبداً.. أبداً
فرفور
http://www.elfagr.org
مجلة الفجر
في جريدة «العربي» الناصري العدد 1072 الصادر في 17 أغسطس 2007 كتب الدكتور هشام عيسي «طبيب عبدالحليم الخاص» ما يقرب من عشر حلقات تتضمن ذكرياته معه قال في الحلقة الأخيرة عن أقرب الشخصيات التي كانت تسهر معه أسماء وجدي الحكيم، محمد حمزة، عصام بصيلة، فاروق إبراهيم، ماهر العطار، فؤاد معوض.. أحب عبدالحليم ـ كما جاء علي لسان د. هشام ـ الكاتب الصحفي الساخر فؤاد معوض الشهير بـ«فرفور» الذي لفت نظره من بساطته وخفة ظله وتعليقاته الصحفية اللاذعة بعد أن تعرف عليه حين كان يعمل في مجلة «الكواكب» وقام بإجراء حوار نشر بالكامل وأعجب عبدالحليم به وبدأت الصداقة فكان «فرفور» أحد الرفاق الذين لا تخلو منهم معظم سهراته المنزلية حتي أن عبدالحليم أقام له حفل زفافه بل وغني فيه!
قبلها بأسبوع تقريبا ـ والحكي علي لساني شخصيا ـ حجز لي قاعة الفرح بعد أن تحدث مع صديقه أمين سامي صاحب كازينو الأريزونا بالهرم لإقامة حفل الزفاف حضره الأصدقاء المقربون بليغ حمدي ومحمد الموجي وعادل إمام وكامل البيطار وصلاح السعدني وآخرون.. طوال عمري لا اطيق ارتداء ثلاثة أشياء.. البدلة.. وربطة العنق.. و الساعة حول معصمي وكانت المشكلة التي واجهتني يومها لكي أكون عريسا كاملا أن ارتدي بدلة وأن اضع «البيبيون» دون أن أعرف ما هو «البيبيون» أساسا!.. استطيع أن اعرف «الاسكالوب بانيه» و«المكرونة النجريسكو» ولا استطيع أن ادعي أنني سبق وأكلت «البيبيون» في أي مطعم حتي فوجئت بالصديق «وجدي الحكيم» يأتيني علي المقهي الذي اعتدت الجلوس عليه وأخذني إلي سيارته وبعد أن فتح شنطة السيارة شاور لي علي «البيبيون» بعد أن افهمني بأنه يوضع حول الرقبة بدلا من رباط العنق حتي تبدو كإنسان متميز تثير الانتباه والاهتمام.. اهتماما بكونك العريس.. ثم أشار أيضا إلي بدلتين وهو يقول: عبدالحليم باعت لك دول علشان تلبس واحدة منهم في الفرح!
اشتطت «حلوة اشتطت دي» بل ركبني ستين عفريت «العفاريت فاكريني ميكروباص» وقلت لـ«وجدي الحكيم» في غضب: روح رجعهم له يا ابن الـ«.. .. ..» انت عاوز تفضحني حد يكون شافه لابس واحدة منهم في «الوسادة الخالية» أو في «شارع الحب» يقول فؤاد معوض بيلبس «سكند هاند» روح قول له يجيب واحدة من بتوع «أبي فوق الشجرة»!
عاد وجدي ليحكي له ما حدث ليفتح عبدالحليم فمه علي آخره.. ها.. ها.. ها.. يضحك ضحكته العالية الفريدة!
<<<
عام 1970 عشت قصة حب مع ابنة مطربة وبطلة للأفلام الغنائية في السينما وذهبت لخطبة ابنتها التي رفضتني بالثلاثة فالزواج عندهم له شروط معينة.. العائلة.. والثروة.. والمركز.. ثم مهر وشبكة ومأذون ومطرب أجنبي بدرجة أربعة وعشرين قيراطا لإحياء الفرح باعتبار العروس «ليلي بنت الأغنياء» أما أنا فـ«فرفور ابن الأغبياء» لأنني تجرأت وتقدمت بطلب الزواج من ابنة ناس أحسن وأفضل ينتمون إلي طبقة بينها وبين طبقتنا بحور وبلاد!.. الفلوس عندهم بالكوم والبنوك تحت أمر دفاتر الشيكات التي يحملونها وفي البيت عندهم ثلاجة عامرة باللحمة من كل الأنواع بتلو.. وبفتيك.. وتريبيانكو بينما في بيتنا حلة مملوءة بالعدس وأحيانا بالفول أبو دمعة وفي كثير من الأحايين لم يكن في الحلة شيء يسر البطن وفي البنطلون لم يكن هناك شيء من الفلوس يسر الجيب.. وبناء علي رفض والدتها لي صدمت ولم يكن أمام عبدالحليم إلا أن يأخذني من يدي لاقناع الأم التي أصرت علي موقفها قائلة : أنا لو أجوز بنتي لصحفي لازم يكون في شهرة طه حسين والمازني والعقاد وتوفيق الحكيم وإحسان عبدالقدوس فرد «حليم» بقوله: يبقي ما فيش مشكلة.. سأصحبه غدا إلي الشهر العقاري واطلب منهم تغيير اسمه من «فؤاد معوض» إلي «طه حسين» ما رأيك؟! وكان الرأي بالرفض التام والموت الزؤام مع عدم علمي بمعني «الزؤام» إياها!
كان عبدالحليم يتمتع بإنسانية لا حدود لها وطبيعة ريفية طيبة ولم تكن العلاقة التي بيننا علي مستوي الصحفي والفنان بل كانت أقوي من ذلك تشعرك بالأخ والصديق الذي يمكنك أن تشركه في مشكلتك أو تناقش معه أي أمر من الأمور الخاصة ولا يتردد في المساعدة والاهتمام بحلها!
<<<
انشغل عبدالحليم جدا وظل في حالة قلق غاية القلق لحظة ظهور هاني شاكر ذلك أنه ظل يراقبه ويتتبع ما يقدمه.. كنت معه في منزل الراحلة مها صبري عندما أذاع التليفزيون إحدي أغنياته «سيبوني أحب» رأيت عبدالحليم يتأمل شكله ويرقب حركاته وينصت إلي صوته في اهتمام.. كان خوف عبدالحليم من هاني شاكر ليس صوته أو وسامته لكن ما كان يضايقه هو مقارنة الصحفيين بينهما.. كانت المقارنة قبلها بينه وبين عبدالوهاب أو فريد الأطرش وغيرهما.. تحولت إلي المساواة بينه وبين مطرب ناشئ وهو ما أزعجه!.. ازعاج عبدالحليم لم يدم طويلا ففي فرح لواحدة من قريبات الدكتور هشام عيسي «طبيبه الخاص» كنا معا هشام وعبدالحليم ومحمد حمزة في فيلته بالعجمي فسأله هشام: تفتكر نجيب مين في الفرح يا عبدالحليم؟!
فأجاب حليم: أنا حاتصل بمحمد رشدي وأحمد غانم المنلوجست ونجوي فؤاد فما كان مني إلا أن اقترحت بما أن الفرح سيقام في الإسكندرية أن نستعين ببعض النمر الشعبية من أبنائها وكنت أعرف متعهد أفراح في الإسكندرية اسمه عياد الرشيدي.. اتصلت به وطلبت منه تجهيز هذه الفقرات الذي وعدني باحضارها مطرب سكندري شعبي وراقصة من حي البياصة ومنلوجست اسمه «بخاتي» علاوة علي مطرب عمره 17 عاما يقدم موشحات وأدوار سيد درويش.. كان المطرب هو عماد علي سليمان «عماد عبدالحليم فيما بعد» وقف وغني يومها «زوروني كل سنة مرة» و«الحلوة دي قامت تعجن» هنا قلت لعبدالحليم: «هات» الواد ده» لـ«ترزي» يفصل له بدلتين ومحمود لبيب «الكوافير الرجالي المعروف» يقيف له شعره والموجي يلحن له وتطلع تقدمه في حفل الربيع بتاعك!
بربش عبدالحليم ـ كعادته ـ بعينيه ـ تعبيرا عن استحسانه للفكرة التي فهم مقصدها حتي اقترب ميعاد الحفل ليخرج عبدالحليم مقدما للجمهور الصوت الجديد عماد عبدالحليم والذي قوبل يومها بالتصفيق والإعجاب فقلت له: مبروك يا عم مشكلتك مع هاني شاكر انتهت!.. سألني: انتهت إزاي؟! قلت: المقارنة دلوقت بين العيال وبعضيهم هاني شاكر وعماد عبدالحليم أما انت فبجانب الكبار علي الدوام.. بعدها انتهي الأمر تماما بالنسبة لهاني شاكر.!
كان يزعجه أن يصل لشهرته منافس أو أن يبلغ أحدهم حد القمة التي يجلس عليها وحده متربعا.. وكثيرا ما كان يتصل بعبدالوهاب وبليغ والموجي ومنير مراد ليقدما له أغاني مشابهة لها نفس الروح التي يتغني بها محمد رشدي أو محرم فؤاد أو هاني شاكر ثم بالفرجة علي انزواء كل منافسيه.. وانتصاره!
<<<
في رحلة عودة من مبني الإذاعة إلي بيته في الزمالك استوقفتنا إشارة المرور.. كان عسكري المرور الواقف لإدارتها يعرف سيارة عبدالحليم المميزة «مرسيدس خضراء اسبور صغيرة» فأقفل الإشارة متعمدا لكي يسلم علي عبدالحليم ـ وقد عرفنا فيما بعد أنه من سوهاج أصلا واسمه عم عباس ـ بعد السلامات قال لعبدالحليم: أنا عازمك علي فرح ابنتي «علية» إذا حبيت تيجي حاتشرف وترفع راسي في الحتة!
رد عليه عبدالحليم وهو يبتسم: وكمان اسمها «علية» دي تبقي غالية قوي.. من عيني إن شاء الله يا عم عباس!
اعطانا عم عباس العنوان الذي كتبته بخط يدي علي ورقة «19 درب البرابرة بالقرب من ميدان العتبة الخضراء» وأنا واثق من تمزيق الورقة بعد مغادرتنا لعم عباس لكني فوجئت بعبدالحليم يأخذ العنوان ويضعه في مفكرة يحتفظ بها دائما في تابلوه السيارة.. وفي هذه المفكرة يحتفظ بتواريخ مناسبات مهمة بالنسبة له.. تواريخ ميلاد فنانين زملاء.. أعياد ميلاد أو زواج أفراد فرقته الموسيقية أو ترقية لأحد أصدقائه من المذيعين يتصل بهم في حينها ويذهب إليهم يبارك المناسبة ويغني مجانا!
مرت أيام وفوجئت بعبدالحليم بعد أن تناولنا الغداء وشربنا الشاي يقول لي: ادخل الحمام خدلك «دش» وحط علي هدومك شوية من قزازة الـ«بروت» اللي ع الرف» وكانت من أرقي ماركات العطور العالمية فقلت له ضاحكا: إحنا رايحين نقابل «نسوان» وللا إيه؟!
رد قائلا: إحنا رايحين فرح «علية».. لم أصدق وركبنا السيارة ومعنا المصور الفنان فاروق إبراهيم في طريقنا إلي هناك.. توقفنا قبلها عند الجواهرجي جورج نسيم بشارع عبدالخالق ثروت ليشتري هدية من الذهب للعروس.. بعدها اتجهنا إلي ميدان العتبة و«درب البرابرة» حارة ضيقة لم نستطع أن ندخلها إلا مترجلين وحولنا مئات من البشر لمحوا عبدالحليم حتي وصلوا بنا إلي مكان الفرح الذي صعدنا علي أقدامنا حتي الدور الرابع فلم يكن في البيت أسانسير حتي بلغنا السطوح المقام به الفرح.. احضر عم عباس فرقة من شارع محمد علي.. ثنائي فكاهي اسمه «حمص وحلاوة» ومطرب «الصالون الأخضر» جلال حمدي الذي حصل علي اللقب لكونه بائع أقمشة فترة الصباح في الصالون الأخضر.. ومطربا ـ علي رأي عبدالوهاب ـ عندما يأتي المساء!
بعد انتهاء كل هؤلاء من تقديم الفقرات المتفق عليها قام عبدالحليم بسؤال قائد الفرقة: حافظين لي حاجة من شغلي؟!
لم يرد عليه قائد الفرقة بالكلام بل بعزف مقدمة أغنيته «أول مرة تحب يا قلبي» التي وقف عبدالحليم يغنيها لـ«علية» بحب وفرح حقيقي وثلاث أغنيات أخري وسط زغاريد الأقارب والمعازيم والدعاء لعبدالحليم بوافر الصحة وطول العمر!
كان لعبدالحليم خصلة جميلة برغم شهرته العريضة وهو أنه كان «خدوما» للبسطاء من الناس فقد كان يري فيهم أهل قريته وأفراد عائلته!.
من وقتها والرجل ـ عسكري المرور ـ أصبح صديقا لعبدالحليم يزوره بلا موعد سابق وأصبح له كرسي مخصوص في كل حفل من حفلاته.. بل تكفل عبدالحليم بمصاريف مدارس أولاده.. وتدخل لتعيين أكبر أنجاله للعمل في وزارة الثقافة.. وعندما سمع الرجل بخبر وفاة عبدالحليم بكي كما لم يبك علي أغلي الناس والده أو شقيقه.. لطم الخد وشق الهدوم وهو يردد في تلعثم غير مصدق.. م..م.. ما.. مات؟!
بعدها اختفي عم عباس نهائيا من عند كوبري أبوالعلا وقد اعتدت رؤيته والسلام عليه في كل مرة اذهب فيها إلي مبني الإذاعة.. قال لي البعض من زملائه إنه أصيب من أثر الصدمة بلوثة ذهبت بعقله وقال لي جيرانه إنه ترك درب البرابرة وسافر إلي بلدته سوهاج وقالت لي زوجته إنه ترك الوظيفة وانتقل إلي مقابر البساتين ليبقي بجوار مقبرة عبدالحليم خفيرا ومقرئًا للقرآن علي روحه دائما!
<<<
خسارة كبيرة وـاستغفر الله ـ أن يرحل عبدالحليم فما كان أعظمه إنسانا وفنانا وما أصعب أن نعوضه في قادم الأيام.. أبدا.. أبدا!.