30 عاماً على رحيل عبد الحليم حافظ
http://leilamagazine3.blogspot.com/2007/04/30.html
بقلم: ناصر عراق
الشراع
الظاهرة.. والتفسير
((سامحني يا رب على ما فعلت بنفسي. لم أقو على تحمل هذه الصدمة بوفاة أعز وأغلى ما في الحياة عبد الحليم حافظ، فقد كان النور الذي أضاء حياتي. واليوم.. الخميس كرهت الحياة منذ اللحظة التي قرأت في الصحف وفاته!)). (1)
بهذه الرسالة الدامعة أنهت أميمة عبد الوهاب محمد – 21 سنة حياتها، بأن ألقت بنفسها من الطابق السابع في البناية ذاتها التي كان يسكن فيها مطربها المعشوق!
أما محمد عبد الوهاب (1897 – 1991) أستاذه وشريكه في شركة إنتاج ((صوت الفن)) فقد انهار حين علم بنبأ الرحيل عندما اتصل بالمستشفى الذي كان يعالج فيه عبد الحليم بلندن، ثم أغلق عليه باب حجرته وظل يصلي كما ذكرت جريدة ((الأهرام)) في 1/4/1977.
وكانت نهلة القدسي قرينة عبد الوهاب التي رافقت حليم في المستشفى بلندن، هي التي اتصلت بجريدة ((الأهرام)) وأملت خبر وفاته في العاشرة من مساء الأربعاء 30/3/1977 بتوقيت إنكلترا إثر نزيف حاد.
4000 رجل من قوات الشرطة تولوا تنظيم وتامين الجنازة التي انطلقت في تمام الساعة 11 من صباح السبت 2/4/1977، من أمام مسجد عمر مكرم في ميدان التحرير، تقدمها حينذاك: رئيس الوزراء ممدوح سالم (كان أنور السادات رئيس الجمهورية وقتها في جولة أوروبية)، ووزير الثقافة والإعلام عبد المنعم الصاوي، ومحافظ القاهرة محمود عبد الحافظ.
بعد ذلك قام نائب رئيس الجمهورية محمد حسني مبارك بتقديم واجب العزاء في منزل عبد الحليم، حيث استقبله شقيقه الأكبر إسماعيل شبانة. لكن الاستعداد للجنازة كان قد بدأ في الواحدة من صباح السبت، حيث خلت منطقة وسط القاهرة من السيارات لاستيعاب عشرات الآلاف الذين انهمروامع دموعهم نحو ميدان التحرير، وفي الثامنة والنصف صباحاً كانت جموع الشباب لا تزال تتوافد من شارع قصر العيني في جماعات تحمل رايات سودآ وصوراً لعبد الحليم حافظ وتردد هتافات منها ((لا إله إلا الله عبد الحليم حبيب الله)) و((الوداع يا حليم.. يا حبيب الملايين))، وكان نائب وزير الداخلية النبوي إسماعيل حاضراً يشرف بنفسه على الاستعدادت.
في ميدان التحرير تقدمت السيارة التي تحمل الجثمان وقد تمت تغطيته بعلم مصر بخطى بطيئة وخلفها المشيعون، بينما احتشد الآلاف فوق ((كباري)) المشاة العلوية وفي الشرفات المطلة على الميدان وأسطح العمارات، يلفهم الحزن العميق الذي عبرت عنه بعض بنات مصر وسيداتها بالكاء والعويل. وعند بداية شارع ((طلعت حرب)) استطاعت الجماهير اختراق نطاق الحراسة المفروضة حول سلالم ((كباري)) المشاة وصعدت إليها وسقطت ثلاث فتيات تحت الأقدام تم إنقاذهن، كما سقط شاب مغمى عليه فأنقذه ضابط كان يقف بالقرب منه، بينما كانت الجنازة مستمرة في سيرها مخترقة الشارع الذي أغلقت جميع متاجره حداداً على رحيل عبد الحليم.
عند وصول الجثمان الى مقبرته في حي البساتين والتي تقع بشارع الرحمة خلف مسجد الدندراوي داست الجماهير المندفعة طفلاً عمره ثماني سنوات فلقي حتفه في الحال، كما أصيب عشرات الشباب والبنات بالإغماء طوال مسيرة الجنازة وعند المدفن!
حسب علمي أنه ما من مطرب عربي آخر أثار كل هذه الفواجع برحيله مثل العندليب الأسمر، فالناس الذين تدلهوا في غرامه بلغوا الملايين منهم من أصابه الإغماء والاكتئاب عند غيابه، ومنهم من انتحر!
بداية المشوار
لم يكن انتحار أميمة عبد الوهاب محمد الطالبة بمدرسة الحلمية الثانوية التجارية، إلا تعبيراً عنيفاً عن لوعة الفقد لمطرب تمكن بصوته الأخاذ من التغلغل بيسر في أوردة وشرايين الملايين من جماهير العرب الذين امتزجوا معه وذاب فيهم بصورة نادرة في عالم الغناء!
والسؤال كيف يمكن أن نفسر ظاهرة عبد الحليم حافظ الآن بعد مرور ثلاثين عاماً على رحيله؟ هل نتكىء على التفسير الفني – الغنائي فقط، لكشف أسرار هذا العذاب الذي كوى قلوب الملايين من محبيه عندما غاب عن الدنيا في 30/3/1977؟ أم نفتش في الأسباب السياسية والثقافية والجتماعية – بجانب الفنية طبعاً – التي أحاطت بالمطرب الأول طوال حياته، عسى وعلى أن نقترب من جوهر هذه الظاهرة العجيبة التي لونت سماء الفن في النصف الثاني من القرن العشرين؟
في عام 1951 سجل عبد الحليم حافظ أول أغنية لحنها له كمال الطويل وكان اسمها ((لقاء))، وهي قصيدة من تأليف الشاعر الرائد صلاح عبد الصبور (1931 – 1982)، وكان عبد الحليم آنذاك يبلغ من العمر 22 عاماً، إذا ولد في 21/6/1929، في قرية الحلوات بمحافظة الشرقية (90 كم تقريباً شمال شرقي القاهرة).
لم تلق قصيدة ((لقاء)) نجاحاً يذكر حين تمت إذاعتها، لكنه لم يستسلم للإحباط وقرر أن يتفرغ تماماً للغناء، فاستقال من التدريس حيث عمل لمدة 4سنوات مدرساً للموسيقى فور تخرجه في المعهد العالي للموسيقى العربية عام 1948، بعد أن اكتشف أن جهده كمدرس يعطل نمو موهبته، فقد كان يذهب يومياً الى مدينة طنطا (84 كم شمالي القاهرة) حيث مقر عمله، وبعدها انتقل الى الزقازيق (60 كلم)، ثم استقر أخيراً في القاهرة، ومع ذلك كان القرار بهجر هذه المهنة حاسماً.
بعد فشل أغنية ((لقاء)) غامر حليم ولم ييأس فقدم عام 1952 ((صافيني مرة)) التي لحنها له صديقه محمد الموجي، وقد لاقت هذه الأغنية نجاحاً ملحوظاً، لكنها لم تؤهله لأن يتبوأ مكانة مرموقة في تلك الآونة، حتى عندما ألحقها بعدة أغنيات مثل ((ظالم)) و((ياتبر سايل بين شطين)) و((يا حلو يا أسمر)) و((يا مواعدني بكرة)) وغيرها، فإن الناس استمعت له، ورحبت به لكن من دون أن تمنحه صك التميز والتفرد!