الذكرى 32 لرحيل فريد الاطرش
الشراع
فريد الأطرش هو الفنان العربي الوحيد الذي حصل على وسام الخلود الفني الفرنسي الذي منح قبله لاثنين فقط من مؤلفي الموسيقى في العالم هما شوبان وبتهوفن، حيث اعتبرت الجهة المانحة في باريس ان فريد الأطرش هو صاحب أول كونشرتو للبيانو في العالم.. وهو الفنان العربي الوحيد الذي أعيد توزيع 8 مقطوعات موسيقية من مؤلفاته توزيعاً اوركسترالياً عالمياً.
وفريد الأطرش ظل لسنوات صاحب أعلى الإيرادات على أداء وإذاعة وتوزيع أغانيه وموسيقاه العربية – الشرقية في العالم بحسب أرقام جمعية حفظ حقوق الملحنين والمؤلفين الموسيقيين في فرنسا، وهي الجهة الرسمية الشرعية الوحيدة في العالم التي تعتبر أرقامها دقيقة وتعتمد من كل المؤسسات والتدقيق والاحصاء الفني.. وقد حصل فريد الأطرش عام 1964 على عشرة آلاف جنيه مصري بالسعر الرسمي يومها على حق الأداء والإذاعة والتوزيع عن العام 1963، وكان أعلى إيراد يحصل عليه فنان عربي في تاريخه.. مع التذكير بأن ألحان وأغاني الموسيقار الخالد معروفة في عدد من البلدان الغربية والشرقية، وهي متداولة بنصها اللحني الأصيل وأحياناً بتوزيع جديد، ويغنيها مطربون ومطربات معروفون أو مبتدئون في بلاد عديدة.
أطلق على فريد الأطرش لقب أمير العود، وهو بالأصل من عائلة أمراء في جبل العرب في سوريا ومن أبرز أبطالها قائد ثورة الجبل سلطان باشا الأطرش.
تميز فريد بألحانه الشرقية الأصيلة وكان مميزاً في إدخال الآلات الغربية في موسيقاه وألحانه وأغانيه، مما سمح له بأداء التانغو والفالس والرومبا في أغنياته مثل ((يا زهرة في خيالي))، ((مش كفاية يا حبيبـي)) ((أنا واللي بحبه))..
وعبر نحو 800 لحن غناها فريد الأطرش تسلل إلى قلوب الملايين.. وفي عصره كان يندر ان نجد عاشقين لم يرددا أغنيات الموسيقار الشرقي الأصيل.. ومن عجب أن نجد ان عشاق فريد لا يشاركون في حبه أحداً من الفنانين العظام في عصره الجميل، مع الإشارة إلى ان عشاق الكبار الآخرين كانوا أكثر عدداً وأعلى صوتاً وأفعل حضوراً.
ومن هؤلاء العظام سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وموسيقار الأجيال العظيم محمد عبد الوهاب والعندليب الأسمر الخالد عبد الحليم حافظ ولكل واحد منهم قصة مع فريد الأطرش تستحق أن تروى بسرعة دلالة على طيبة قلب موسيقارنا الراحل وتعثر كل محاولات اللقاء بينه وبين أي منهم.
كان حلم فريد أن تغني أم كلثوم أحد ألحانه.. وقيل ان جهداً كبيراً بذله وآخرون من أصدقاء الاثنين ليجتمعا في عمل واحد تغنيه كوكب الشرق من ألحان أمير الغناء الشرقي حتى استقر الأمر على قبول السيدة أم كلثوم غناء أغنية الربيع التي عكف فريد على تلحينها.. ثم تعذر تقديمها بصوت أم كلثوم، وقيل ان السبب ان السيدة العظيمة لم تشأ أن تتقولب في لحن من ألحان فريد الذي يأسر من يؤديها وكانت هي تميل إلى التحكم باللحن وتطويعه كما تشاء وقيل ان الاعتراض كان على كلمات الأغنية نفسها.. والمهم ان اللقاء لم يتم.. وكانت أغنية الربيع وعزف فريد على العود فيها إحدى العلامات الموسيقية الشرقية الخالدة.
وكان هناك دعوة لأن يغني عبد الوهاب لحناً من ألحان فريد الأطرش، وان يؤدي فريد أحد ألحان عبد الوهاب لكن الأمر لم يتجاوز الطرح الصحافي من أصدقاء الموسيقارين من الاعلاميين.
أما قصته مع عبد الحليم حافظ فقد تدخل فيها جمال عبدالناصر نفسه، حيث التقى الاثنين في إحدى المناسبات السعيدة وهي زواج إحدى قريبات نائبه عبد اللطيف البغدادي وطلب منهما أن يتعاونا فنياً بما يعني ان يغني حليم لحناً لفريد.. وأيضاً لم يحصل هذا الأمر ولم يتجاوزا خلافاتهما التي تكررت فيما بعد.
ومع هذا فإن فريد الأطرش هو الفنان الوحيد الذي زاره جمال عبدالناصر في منـزله لشكره على تبرعه بإيراد حفل من حفلاته لمصلحة منكوبي فيضان حصل في قنا في صعيد مصر عام 1957.. وقيل يومها ان فريد كان مريضاً وكان متأثراً من حملة كانت تشن ضده لكونه غير مصري فأراد عبدالناصر رد الاعتبار للموسيقار أيضاً وهو صاحب المشروع القومي العربي الكبير.
ورغم ان عبدالناصر سبق وزار أم كلثوم في منـزلها قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية وبعد قيام الثورة، ورغم ان أم كلثوم كانت ضيفة دائمة ظهر كل يوم جمعة للقاء عائلة عبدالناصر وتناول طعام الغداء معها، فإن مشاغل عبدالناصر لم تسمح له أن يزورها في منـزلها.
ورغم ان عبدالناصر أعطى رقمه الخاص لعبد الحليم كي يتصل به متى احتاجه وكان يعتبره مطرب الثورة أو المعبر عنها، إلا انه لم يزره أبداً في منـزله، وكذلك موسيقار الأجيال – الذي وصف بأنه مطرب الملوك – محمد عبد الوهاب لم يحظ بشرف زيارة عبدالناصر له في منـزله.
الأطرشية
ما من مطرب أو مطربة أدى لحناً لفريد إلا وطبع لحنه بالأطرشية، وهي مدرسة في الأداء واللحن وحتى في الموال الذي حرص فريد على الاحتفاظ به في أغانيه تعبيراً عن تمسكه بالأصالة في ألحانه فضلاً عن امتحان دائم لصوته المميز الذي كان الموال اختباراً لمتانته وارتفاعه والقدرة على التحكم به.. غنى له محرم فؤاد ((يا واحشني رد عليّ)) فأطلقت محرم من جديد.. وإذا كنت تستمع لأغنية سيخطر ببالك ان هذا لحن لفريد الأطرش وقد يؤديه هو بالطريقة نفسها.
غنت له وردة ((روحي وروحك حبايب))، فإذا بالأطرشية تسيطر على أداء وردة..
غنت له صباح ((عالصورة إمضيلي عالصورة)) وشادية والكثيرون وقدم مقطوعات موسيقية خالدة عديدة.. ولم يفشل له أي لحن سواء ما غناه هو أو ما قدمه للفنانين الآخرين وتميزت أغنيات فريد في سنواته الأخيرة بقصر مدتها عكس الأسلوب الذي اعتمده عبد الحليم وكان كل منهما يخالف بداياته تقريباً.
وإلى جانب أغنياته العاطفية تميز فريد بأغنياته الوطنية وأبرزها ((المارد العربي)).. وبعد رحيل جمال عبدالناصر قدم لحناً خالداً تحت عنوان ((حبيبنا يا ناصر يا أعز الحبايب بطل وانت حاضر بطل وانت غايب)).. ولسوء الحظ والقدر ان هذا اللحن لم يذع سوى مرات قليلة لعدة أيام ثم اختفى كما اختفى كل أثر فني عن جمال عبدالناصر بعد انقلاب أنور السادات يوم 13/5/1971.
كان فريد الأطرش أغزر المطربين تقديماً للأفلام السينمائية ولم ينافسه في هذا المجال سوى الموسيقار المجدد محمد فوزي، وان كان فريد يعترف بأن أفلام عبد الحليم نجحت أكثر من أفلامه لأن أداء حليم فيها كان الأقرب إلى الصورة المطلوبة من المطرب الممثل منه، وكان أنجح أفلام عبد الحليم التي كشفت الفارق بين جمهوري الاثنين هو فيلم عبد الحليم ((أبي فوق الشجرة)) الذي عرض في وقت واحد مع فيلم فريد ((نغم في حياتي)).. وفي حين ان عرض فيلم ((أبي فوق الشجرة)) استمر نحو سنة كاملة في مصر وكثير من البلاد العربية فإن فيلم فريد رفع بعد عدة أسابيع.
كان منـزل فريد الأطرش مفتوحاً لأصدقائه ومحبيه من المعارف الكبار، وكانت مائدة الغداء ممدودة لمن يريد تناول الغداء سواء كان فريد في المنـزل أو غادره إلى عمل أو ارتباط أو زيارة أو سفر.. رحل فريد الأطرش يوم 24/12/1975 عشية عيد الميلاد الذي كان حريصاً على الاحتفال به مع أصدقائه المقربين في إطار أشبه بالعائلية التي كان فريد محروماً منها معوضاً إياها بصداقاته الواسعة الممتدة على كل أرجاء الوطن العربي.
والموسيقار الذي رحل منذ 32 سنة، عن عمر يناهز الـ58 سنة بعدة أسابيع لم ينل حقه من التكريم والوفاء اللذين يستحقهما لعطاءاته الفنية الموسيقية والإنسانية والسينمائية، ورغم وجود عدة جمعيات لأنصار فريد الأطرش ومحبيه في أكثر من بلد عربي إلا ان أياً منها لم ينجح في استصدار طابع بريدي يحمل صورته أو شارع يحمل اسمه، أو معهد موسيقى أو مسرح أو قاعة.. لكأن فريد ردد قبل رحيله في ((غداً يوم آخر)) أغنية ((عدت يا يوم مولدي.. عدت يا أيها الشقي)) وهو يقصد يوم رحيله الذي لم يذكره كثيرون.
لقطات من حياة موسيقار الشرق
لحن لبديعة في الثالثة عشرة من عمره
ولد فريد الاطرش في جبل العرب في سوريا في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1917 وتوفي يوم 24/12/1975.
حملته أمه وشقيقته اسمهان وكان عمره 7 سنوات الى القاهرة هرباً من الثورة التي قادها عمه سلطان باشا الاطرش ضد الاستعمار الفرنسي في جبل العرب عام 1924.
عانى فريد وشقيقته شظف العيش في مصر ما دفع والدته الأميرة الى العمل في تطريز مناديل ((بأويا)) وبيعها لدفع ايجار الغرفة التي استأجرتها للمبيت وثمن الطعام، ثم المدرسة.
اضطر فريد للعمل صباحاً في توزيع اعلانات على عجلات قبل الذهاب الى المدرسة.
كان فريد تلميذاً في مدرسة راهبات وكان يصر على حضور درس التراتيل الدينـية التي كان يعجب بأدائها رغم مغادرة رفاقه المسلمين هذه الدروس، وقد شاهده وسمعه مدرسه يدندن بها فأعجبه صوته وطلب منه المشاركة في التراتيل ففعل وبرع حتى أقنع مدرسه والدته بالتسجيل في معهد موسيقى كان يذهب اليه بعد فراغه من المدرسة في الخامسة مساءً.
والدته الأميرة كانت تعزف على العود وكان يكثر الاستماع اليها ثم حمل العود وبدأ تعليم نفسه دون معلم حتى وصل الى مرحلة كتابة النوتة الموسيقية حتى اصبح من ابرع من عزف العود في الشرق.
عام 1930، شارك بديعة مصابني في مسرح غنائي كان يقف هو على يمينها ويقف المطرب المعروف يومها ابراهيم حموده على يسارها ليقدم وصلات غنائية ترقص عليها بديعة وكلها من ألحان فريد ولم يكن عمره يتجاوز 13 عاماً.
عام 1934 افتتحت الاذاعة المصرية فقدمه الموسيقار مدحت عاصم بأغنيتين مباشرتين على الهواء هما ((يا ريتني طير لأطير حواليك)) وهي من ألحان يحييى اللبابيدي وهو اللحن الوحيد الذي غناه فريد لغيره، وأغنية ((بحب من غير أمل)).. وقد تفاءل فريد بهما كثيراً وكان يصر على تقديمهما في كل فعل غنائي يشارك فيه ضمن مجموعة اغانيه العديدة لسنوات طويلة.
بعد هاتين الاغنيتين انهالت عليه الرسائل والطلبات للمشاركة في حفلات محلية شعبية وخاصة وأمام كبار القوم حتى طلبه جمهور عربي في بريطانيا ليغني في الـ((بي. بي. سي)).
عام 1939 ذهب الى لندن ليقدم حفلة خاصة عبر الاذاعة البريطانية فاندلعت الحرب العالمية الثانية مما دفعه لأن ينتقل من بريطانيا الى فرنسا حيث تسكع في شوارع مرسيليا منتظراً مركباً يقله الى مصر وهو في حالة انتظار ارسل الى صديقه يوسف بيدروس ان يكتب له شعراً يحكي عن حالته ليغنيه فكانت اغنية:
يا مصر كنت انا بغربة وحيد
ويوم ما جتلك صرت بعيد
مع عبدالوهاب وحليم واسمهان
قال عنه محمد عبدالوهاب:
ان فريد كان ذا صوت مقتدر، عظيم وهو مطرب اكبر منه ملحن، وهو اثرى الغناء العربي بمسائل عديدة في الاغنية والموسيقى، وله موهبة في الاداء لا يملك غيره الوصول اليها خاصة في مدى الشجن والحزن، حيث كان يتمتع بشخصية نادرة في هذا المجال.
قال عنه عبدالحليم:
ان جمهور فريد وصل الى حد ان ارتفاعاً حصل في نسبة المواليد التي تحمل اسم فريد او وحيد وهو الاسم الذي كان يفضله في كثير من افلامه.
كان فريد مؤمناً بصوت شقيقته اسمهان، وقدم لها العديد من الألحان الخالدة ومنها ((رجعتلك يا حبيبي))، ((عليك صلاة الله وسلامو)) و((نويت اداري آلامي)) وفيها توزيع موسيقي جميل واوركسترالي وكان هذا أمراً نادراً يومها، مع الإصرار على الاصالة الشرقية في اللحن.
وقدم فريد مع شقيقته اسمهان فيلم ((انتصار الشباب)) وغنت فيه اسمهان ((يللي هواك شاغل بالي)) عام 1941.
وفي فيلم ((غرام وانتقام)) غنت اسمهان من ألحان شقيقها اوبريت صغيرة هي ((ليالي الانس في فيينا))، واستخدم فيها لأول مرة في الشرق ((آلة الغيتار)) عام 1944 مع توزيع اوركسترالي استخدم فيه ((الفالس)).
ويعترف فريد الاطرش بأنه احب جملتين موسيقيتين سمعهما في فيلم اجنبي فأدخلهما في أغنيتين هما: ((ليه تهجرني.. وليه انا بحبك)) ويقول في هذا الحب انه ليس سرقة بل اعجاب وهو فعل مثلما فعل تشايكوفسكي الذي اعجب بجملتين لبتهوفن فأدخلهما احد ألحانه العظيمة وكتب معترفاً بذلك قائلاً انه اقتباس عن اعجاب وحب وليس كسلاً او عجزاً او سرقة.. وهذا ما كرره فريد ايضاً.
كان فريد يعتبر ان اعظم ألحانه لحنين هما ((الربيع)) و((اول همسة)) وان كان احس بنجاحه الكبير بعد افلامه ((انتصار الشباب)) و((احلام الشباب)) ثم ((حبيب العمر)) وله في نفسه مكانة خاصة.
قصة مفيدة
قرأ فريد الاطرش قصيدة لكامل الشناوي تحت عنوان ((عدت يا يوم مولدي)) نشرها الشاعر في احدى الصحف بمناسبة عيد مولده وقد اعجب فريد بها كثيراً قائلاً انها تمس مشاعر مهمة جداً في حياته فطلب من كامل الشناوي ان يغنيها، لكن الشناوي ابلغه بأن هذه القصيدة موجودة في درج عبدالوهاب منذ اربع سنوات على وعد بأنه سيلحنها ليغنيها او يعطيها لأحد الفنانين لحناً مغنى.
وفي العام التالي وبمناسبة عيد ميلاد الشناوي دعاه فريد الى حفل عشاء في منـزله المفتوح دائماً ودعا عدداً كبيراً من الاصدقاء، للاحتفال بعيد ميلاد الشاعر الكبير الذي فوجىء بالاحتفال بمناسبته فقرر اهداء فريد ما يحب فإذا هي القصيدة نفسها.. ولما سأله فريد ((الا يغضب هذا عبدالوهاب..؟)).. رد الشناوي.. بل على العكس فقد فرح عبدالوهاب عندما علم بأنك ستغنيها قائلاً فريد أخي وسيقدم فيها لحناً عظيماً.. وهذا ما كان.
Labels