"لو لم يكن نزار قباني أبي لكنت اخترعته نموذجا إغريقيا من النماذج التي لا يمكن نحتها مرة أخرى، هو الصدر الرحيم الذي شربت منه الحب والحنان حتى لم أعد أعرف هل أنا طفلته أم هو طفلي" هكذا قالت ابنته هدباء بينما رأي ابنه عمر نزار قباني "أنا شخصيا معجب بأبي، وأقول: إنه يجب أن يخلد الآن ليشهد بنفسه وفي حياته هذا التقدير من أبناء وطنه وبلده. ولا أستطيع إلا القول: إن شعر نزار قباني رائع عظيم، ولكن، من الصعب أن أحب شعره قبل أن أحب شخصيته وحضوره وعلاقته الأبوية بي، أنا أحب نزار لأنه والدي أولا، ولأنه شاعر كبير أعتز به كواحد من قرائه ومعجبيه، وشعره يعبر عن حساسيته وشفافيته وشخصيته وفنه".
أحببت أن أقدم نزار من خلال ابنته وابنه، قبل أن أصل إلى شكل العلاقة التي كانت تربطه بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، حيث تكاد تكون هذه العلاقة غير معلنة، على الرغم من علانيتها، وشبه سرية، رغم وضوحها. فقد استقبل حافظ الأسد نزار قباني عام 1974في مكتبه.
وكتب نزار: "منذ أيام النبي العربي.. والشام "بتتكلم" عربي، ومنذ أيام معاوية وهشام ومروان حتى أيام حافظ الأسد، ومنذ موقعة بدر، حتى موقعة جبل الشيخ، والشام مواظبة على تكلم اللغة العربية، وعلى تعليمها، إن صناعة دمشق الأساسية هي العروبة".
بينما كتب قصيدة أسماها "كان اسمه السادات"
بعد أن قرر السادات الذهاب إلى تل أبيب وإقامة صلح منفرد مع إسرائيل:
كان اسمه
كما يقال أنور السادات
كان اسمه المأساة
خلف عبد الناصر العظيم مثل الشاة
كنا نظن أنه يرتل القرآن
لكنه فاجأنا.. وأخرج التوراة
كنا نظن أنه
سيدخل القدس على حصانه
ويستعيد المسجد الأقصى من الأسر
ويدعو الناس للصلاة
لكنه فاجأنا
وسلم الأرض من النيل إلى الفرات.
وفي نص آخر كتبه نزار قباني في مديح حافظ الأسد وإنجازاته ومن ضمنها سد الفرات:
في بلادي يغيرون تاريخ حياة نهر
نزع الرئيس حافظ الأسد عن الفرات
عباءته الطينية، أعطاه قلما
ليكتب يومياته كنهر متحضر، أعلن
وهو يحول مجرى النهر، أن سد
الفرات ليس عملا
هندسيا خاصا بسورية، ولكنه عمل
قومي من أعمال التحرير.
إذا، فالنصر في تصور الرئيس الأسد
هو نصر حسابي وتقني وحضاري
إنه نصر سيحققه بصورة حتمية
إنسان الفرات القادم.
ولما مرض نزار قباني ودخل مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت، واهتم حافظ الأسد بصحة نزار قباني وسأل عن صحته، وأوصى بالاهتمام به كتب نزار:
"إن الرئيس حافظ الأسد هو صديق الشجرة والغيمة وسنبلة القمح والحقول والأطفال والغابات، والجداول والعصافير والشعراء وفيروز وعاصي الرحباني. ولو أن عصفوراً واحداً سقط أو غمامة واحدة بكت أو سنبلة قمح واحدة انكسرت لحمل إليها حافظ الأسد وعاء المهل ووقف فوق رأسها حتى تشفى".
ومما كتبه نزار أيضا:
"سيادة الرئيس القائد
يطيب لي، وأنا موجود على أرض بلادي أن أحيي مواقفكم القومية الشامخة والمتميزة، شكراً لكم، لأنكم حميتم مداخل هذا الوطن وذاكرة هذه الأمة.
وشكراً لكم، لأنكم موجودون في تاريخنا"
ولما مرض الشاعر نزار قباني في أواخر عام 1997، حيث أصابته أزمة قلبية في لندن حيث كان يعيش في 35سلون ستريت، المتفرع من نايتسبردج أحد الأحياء الراقية أحاطه الرئيس حافظ الأسد بعناية خاصة وفائقة فكتب: "إن السيد الرئيس حافظ الأسد قد حماني دائماً وظلني بمظلة حبه، وكان لي الأب الحنون الذي لم يتخل عن ابنه لحظة واحدة، فله شكري العظيم وعرفاني ولجميع الوزراء والسفراء الذين أوفدهم للسؤال عني في لندن حاملين لي من دمشق نسيم العافية.
حفظ الله الشام؟ وحفظ قائدها؟ وشعبها من كل سوء، فإذا كنت أقف على أقدامي اليوم فإن الفضل يعود إليه.
ويوم مات باسل حافظ الأسد أرسل نزار برقية عزاء للرئيس حافظ الأسد جاء فيها:
"السيد الرئيس حافظ الأسد:
عندما يكبر حجم المأساة، تضيق مساحة اللغة وتموت الكلمات.
لم يكن باسل حبيبك وحدك، وإنما حبيب كل ذرة من أرض الشام، وحبيب كل شجرة، وكل نجمة، وكل غيمة، وكل حمامة، وكل سنبلة قمح في حقول الوطن، لقد ذهب باسل إلى السماء، لأنها كانت بحاجة إلى فارس جميل ونبيل وشجاع مثله، ولا قدرة لنا - يا سيدي الرئيس - على التدخل في خيارات السماء.
انحني أمام حزنك الكبير، وجرحك الذي لا ضفاف له.
وأعرف أن كل المراثي في الدنيا لا تكفي لرثاء وردة".
ومن حافظ الأسد إلى جمال عبد الناصر، والسبب قصيدته الشهيرة "هوامش على دفتر النكسة" التي "نشرت في مجلة "الآداب" اللبنانية، ولم أكن متأكدا حين دفعت القصيدة إلى الصديق سهيل إدريس أنه سينشرها، فخط سهيل إدريس خط متفائل، وأحلامه العربية مشربة دائما باللون الوردي، لكن، حين جاء سهيل إدريس إلى مكتبي ذات صباح وقرأت له القصيدة، صرخ كطائر ينزف: انشرها.. انشرها، قلت لسهيل: إن القصيدة من نوع العبوات الناسفة التي قد تحرق المجلة، أو تعرضها للإغلاق أو المصادرة، وإنني لا أريد أن أورطك وأكون سببا في تدمير المجلة. نظر إلى سهيل إدريس بعينين حزينتين تجمعت فيهما كل أمطار الدنيا وكل أشجار الخريف المتكسرة، وقال بنبرة يمتزج فيها الألم الكبير بالصدق الكبير: إذا كان حزيران قد دمر أحلامنا الجميلة، وأحرق الأخضر واليابس، فلماذا تبقى مجلة الآداب خارج منطقة الدمار والحرائق؟ هات القصيدة، وأعطيته القصيدة".
وبعدما نشرت قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" صودرت مجلة "الآداب" اللبنانية، وأحرقت أعدادها في عدد من البلدان العربية.
يقول نزار قباني: "جلسنا في بيروت، سهيل وأنا، نتفرج على ألسنة النار، ونرثى لهذا الوطن الذي لم تعلمه الهزيمة أن يفتح أبوابه للشمس والحقيقة" وكتب الشاعر المصري الراحل صالح جودت مقالا في مجلة "الكواكب" المصرية بتاريخ 12من سبتمبر 1967ميلادية بعنوان "امنعوا أغاني نزار قباني" جاء فيه: "في هذه المحنة التي تدمع لها كل عين، ويدمي لها كل قلب تطلع علينا إحدى الصحف العربية بقصيدة لنزار قباني عنوانها "هوامش على دفتر النكسة" يسخر فيها من الأمة العربية، ويقول إنها أمة الأفيون والشطرنج والنعاس، وإن هذا الجيل خائب، وأشياء أخرى قبيحة لا مجال لذكرها (...) هذا هو نزار قباني الذي كرمناه ودللناه وعرفناه بعد أن كان صغيرا، ونشرنا له مختلف الصور والأحاديث، وفتحنا أبواق الإذاعة وعدسات التليفزيون لتكبير حجمه، لقد انتهى نزار كشاعر، وانتهى كعربي، وانتهى كإنسان، وبقي علينا أن نطلب إلى الإذاعة والتليفزيون عندنا وإلى الإذاعات والتليفزيونات العربية جميعا أن توقف أغانيه وتسقطه من حساب هذا الجيل الذي يزعم نزار أنه جيل خائب".
ثم كتب صالح جودت مقالا آخر بتاريخ 19من سبتمبر 1967في مجلة "الكواكب" التي كان يرأس تحريرها آنذاك الناقد والكاتب رجاء النقاش: "يعز على أن أفقد صديقا عرفته منذ ربع قرن، ويحز في نفسي أن أجدني مضطرا إلى وضع اسم عربي في قائمة المقاطعة.. نفس القائمة التي وضعنا فيها اليزابيث تيلور وفرانك سيناترا من قبل.. هو اسم نزار قباني، ويشق على قلبي أن أطالب الإذاعات العربية جميعا بمقاطعة أغاني نزار قباني، وأن أطالب المكتبات العربية جميعا بمصادرة دواوين نزار.. لقد استخدم نزار في هذه القصيدة كلمات لا توجد في قاموس الشعر ولا في لغة الشعراء مثل: "القهر"، و"الأحذية"، و"القئ"، و"السعال"... إلخ. أريد أن أقول لنزار لقد انتصرنا منذ 1952، في عشرات من الجولات أمام دول كبرى، وأمام قوى شريرة، وأمام تحديات عنيدة، وفي أكثر من ميدان، وإذا كنا قد خسرنا هذه الجولة فقد كسبنا جولات كثيرة، وسنكسب بعدها جولات أكثر وأكثر.. وإذا كنا قد واجهنا الهزيمة في هذه المرة فحسبنا شرفا أننا خضناها من أجل الشرف العربي، من أجل الدفاع عن سورية الحبيبة.. وطنك أنت، لأن اليهود هددوا بالاستيلاء على دمشق. وأنا معك يا نزار في الاهتمام بقضية الإنسان، ولكن الشاعر الذي ي
حطم معنويات قومه بمثل هذه القصيدة، وفي مثل هذه المحنة، هو وحده الذي ينفصل عن قضية الإنسان".
وقد كتب رجاء النقاش "ردا عنيفا في مجلة المصور وقد ظل صالح جودت غاضبا من هذا الرد حتى وافته المنية" كما يذكر نضال نصر الله.
"ونجحت" - للأسف - حملة صالح جودت وسرعان ما تبنت وزارة الإعلام المصرية مواقف جودت وأصدرت عدة قرارات:
1- منع تداول القصيدة
2- فرض حصار رسمي على منشورات نزار قباني وقصائده المغناة في إذاعة الجمهورية العربية المتحدة.
3- اعتبار الشاعر نزار قباني من الممنوعين من دخول مصر.
وكلنا يعرف أن قصائده المغناة كانت - وماتزال - بصوت أم كلثوم، نجاة، عبد الحليم حافظ. كما أن القاهرة كانت أول دولة يدخلها دبلوماسيا وكان وقتذاك في الثانية والعشرين من عمره، وكان ذلك في عام
1945.ولم يدر نزار ماذا يفعل إلى أن ألتقى رجاء النقاش في بيروت في أواخر نوفمبر عام 1967يقول رجاء النقاش في كتابه: "ثلاثون عاما مع الشعر والشعراء": في جو الحملة المشتعلة ضد نزار قباني، سافرت إلى بيروت، كان ذلك في أواخر نوفمبر 1967، وكانت المناسبة هي الاشتراك في الاحتفال بذكرى الأديبة الفلسطينية الراحلة سميرة عزام، وخلال الأيام التي قضيتها في بيروت ذهبت لزيارة نزار قباني في مكتبه الخاص الذي كان يدير منه دارا للنشر باسم "منشورات نزار قباني" وكان معي في هذه الزيارة صديقنا المشترك الأديب سهيل إدريس صاحب مجلة الآداب، وبدأ نزار يتحدث عن ألمه وضيقه مما حدث في مصر ضده وضد قصيدته.
وخلال الحوار بين نزار قباني وبيني رأيت أن أعرض عليه فكرة طرأت على ذهني منذ ظهور المشكلة، فقلت له: إن المسألة الآن بحاجة إلى موقف آخر، هذا الموقف هو أن تكتب بنفسك رسالة إلى جمال عبد الناصر، ووعدته بأن أحمل الرسالة بنفسي إلى القاهرة، وأن أعمل بأن تصل بوسيلة ما، ووافق نزار على الاقتراح، وسعد به، واتفقنا على زيارته في اليوم التالي للحصول على الرسالة.
وزرته مرة ثانية مع سهيل إدريس، فوجدته قد أعد الرسالة، وكتبها بأسلوبه الرائع.
وعدت إلى القاهرة وأنا أفكر في طريقة لإيصال الرسالة خاصة أنني لم أكن على علاقة من قريب أو بعيد بالرئيس أو بمكتبه.
وكان أمامي طريقان: الأول هو أن أسلم الرسالة للسيد محمد فائق الذي كان وزيراً للإعلام في ذلك الوقت والثاني: أن أسلم الرسالة إلى الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، وكان رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال التي أعمل بها، واخترت الطريق الثاني لإيصال الرسالة، وذلك حرصا مني على أن تصل الرسالة بطابع فكري ثقافي لا رسمي، وسلمت الرسالة إلى بهاء الدين الذي قام بطريقته بتوصيلها إلى عبد الناصر.
ولم يمض أسبوع حتى استدعاني الأستاذ محمد فائق وزير الإعلام ليطلعني على رسالة نزار وقد أعادها إليه الرئيس ومعها تعليق بخط يده".
يقول نزار قباني: حين شعرت أن الحملة خرجت عن نطاق النقد والحوار الحضاري ودخلت نطاق الوشاية، قررت أن أتوجه مباشرة إلى الرئيس جمال عبد الناصر. ولم يطل صمت عبد الناصر، ولم تمنعه مشاكله الكبيرة وهمومه التي تجاوزت هموم البشر من الاهتمام برسالتي، فقد روى لي أحد المقربين منه أنه وضع خطوطا تحت أكثر مقاطع الرسالة، وكتب بخط يده التعليمات الحاسمة التالية:
1- لم أقرأ قصيدة نزار قباني إلا في النسخة التي أرسلها إلى، وأنا لا أجد أي وجه من وجوه الاعتراض عليها.
2- تلغى كل التدابير التي قد تكون اتخذت خطأ بحق الشاعر ومؤلفاته، ويطلب إلى وزارة الإعلام السماح بتداول القصيدة.
3- يدخل الشاعر نزار قباني إلى الجمهورية العربية المتحدة متى أراد، ويكرم فيها كما كان في السابق.
التوقيع
جمال عبد الناصر
يقول: لم أشأ في تلك الظروف الحساسة الدقيقة أن أكتب لنزار عن طريق البرق أو البريد، وأحسست أنه من الضروري أن أسافر إلى بيروت مرة أخرى، وكان عندي آنذاك دعوة من صديقي الفنان عاصي الرحباني لحضور افتتاح فيلم جديد بعنوان "سفر برلك" فاتخذت منها حجة للسفر إلى بيروت، وهنا ألتقيت مع نزار وأبلغته برسالة محمد فائق الشفوية وسلمته رسالة بهاء المكتوبة".
يقول نزار قباني: "أجد أن الأمانة التاريخية تقتضي أن أسجل للرئيس الراحل جمال عبد الناصر موقفا لا يقفه عادة إلا عظماء النفوس، واللماحون، والموهوبون، الذين انكشفت بصيرتهم، وشفت رؤيتهم، فارتفعوا بقيادتهم وتصرفاتهم إلى أعلى مراتب الإنسانية والسمو الروحي.
فلقد وقف الرئيس عبد الناصر إلى جانبي، يوم كانت الدنيا ترعد وتمطر على قصيدتي "هوامش على دفتر النكسة"، وكسر الحصار الرسمي الذي كان يحاول أن يعزلني عن مصر بتحريض وإيحاء من بعض الزملاء الذين كانوا غير سعداء لاتساع قاعدتي الشعبية في مصر، فرأوا أن أفضل طريقة لإيقاف مدي الشعري، وقطع جسوري مع شعب مصر، هي استعداء السلطة علي، حتى أن أحدهم طالب وزارة الإعلام بمقال نشره في إحدى المجلات بحرق كتبي، والامتناع عن إذاعة قصائدي المغناة، ووضع اسمي على قائمة الممنوعين من دخول مصر.
بعد كلمات جمال عبد الناصر، تغير الطقس وتغير اتجاه الريح وتفرق المشاغبون وانكسرت طبولهم ودخلت "الهوامش" إلى مصر أكثر بريقا، ونيلها أكثر اتساعاً، ونجومها أكثر عدداً.
إنني أروي هذه الحادثة التي لا يعرفها إلا القلة من أصدقائي، لأنها تتجاوز دائرة الأسرار الخصوصية لتأخذ شكل القضية العامة فقضيتي مع الرئيس جمال عبد الناصر ليست قضية شخصية أي علاقة بين قصيدة ممنوعة وبين رقيب يمنعها، إنها تتخطى هذا المفهوم الضيق، لتناقش من الأساس طبيعة العلاقة بين من يكتب ومن يحكم بين الفكر وبين السلطة.
فالعلاقة بين الكتابة وبين الحكم علاقة غير سعيدة، لأنها علاقة قائمة في الأصل على سوء الفهم وانعدام الثقة، لا الكاتب يستطيع أن يتخلى عن غريزة الكلام ولا الحاكم يقبل أن يسمع صوتا غير صوته، وإذا قبل أن يستمع فلا يظهر به إلا صوت الكورس الرسمي، ومنذ القديم كان الكلام يقف في جهة، والمقصلة تقف في الجهة المقابلة، ومع هذا لم يتوقف الكلام ولم تتعب المقصلة.
لقد كسر الرئيس جمال عبد الناصر بموقفه الكبير جدا الخوف القائم بين الفن وبين السلطة، بين الإبداع وبين الثورة، واستطاع أن يكتشف بما أوتي من حدس وشمول في الرؤية أن الفن والثورة توأم سياسي ملتصق، وحصانان يجران عربة واحدة، وأن كل محاولة لفصلهما سيحطم العربة، ويقتل الحصانين.
سيادة الرئيس القائد،
يطيب لي، وأنا موجودعلى أرض بلادي، أن أحيي مواقفكم القومية الشامخة والمتميزة.
فشكراً لكم لأنكم حميتم مداخل هذا الوطن وذاكرة هذه الأمة.
وشكرا لكم لأنكم موجودون في تاريخنا
نزار قباني
نص الرسالة التي وجهها
الشاعر نزار قباني للرئيس جمال عبد الناصر
"سيادة الرئيس جمال عبد الناصر:
في هذه الأيام التي أصبحت فيها أعصابنا رمادا، وطوقتنا الأحزان من كل مكان، يكتب إليك شاعر عربي يتعرض اليوم من قبل السلطات الرسمية في الجمهورية العربية المتحدة لنوع من الظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم.
وتفصيل القصة أنني نشرت في أعقاب نكسة الخامس من حزيران قصيدة عنوانها "هوامش على دفتر النكسة" أودعتها خلاصة ألمي وتمزقي، وكشفت فيها عن مناطق الوجع في جسد أمتي العربية، لاقتناعي أن ما انتهينا إليه لا يعالج بالتواري والهروب، وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا، وإذا كانت صرختي حادة وجارحة، وأنا أعترف سلفا بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، ولأن النزيف بمساحة الجرح.
من منا يا سيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5حزيران؟
من منا لم يخدش بأظافره؟
من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض؟
إن قصيدتي كانت محاولة لإعادة تقديم أنفسنا كما نحن، بعيدا عن التبجح والمغالاة والانفعال، وبالتالي؛ كانت محاولة لبناء فكر عربي جديد يختلف بملامحه وتكوينه عن ملامح فكر ما قبل 5حزيران.
إنني لم أقل أكثر مما قاله غيري، ولم أغضب أكثر مما غضب غيري، وكل ما فعلته أنني صغت بأسلوب شعري ما صاغه غيري بأسلوب سياسي أو صحفي.
وإذا سمحت لي يا سيادة الرئيس أن أكون أكثر وضوحا وصراحة، قلت إني لم أتجاوز أفكارك في النقد الذاتي، يوم وقفت بعد النكسة تكشف بشرف وأمانة حساب المعركة، وتعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
إني لم أخترع شيئا من عندي، فأخطاء العرب النفسية والسياسية والسلوكية مكشوفة كالكتاب المفتوح.
وماذا تكون قيمة الأدب يوم يجبن عن مواجهة الحياة بوجهها الأبيض ووجهها الأسود معا؟ ومن يكون الشاعر يوم يتحول إلى مهرج يمسح أذيال المجتمع وينافق له: لذلك أوجعني يا سيادة الرئيس أن تمنع قصيدتي من دخول مصر، وأن يفرض حصار رسمي على اسمي وشعري في إذاعة الجمهورية العربية المتحدة وصحافتها. والقضية ليست قضية مصادرة قصيدة أو مصادرة شاعر. لكن القضية أعمق وأبعد.
القضية هي أن نحدد موقفنا من الفكر العربي. كيف نريده؟ حرا أم نصف حر؟ شجاعا أم جبانا؟ نبيا أم مهرجا؟
القضية هي أن يسقط أي شاعر تحت حوافر الفكر الغوغائي لأنه تفوه بالحقيقة.
والقضية أخيرا هي ما إذا كان تاريخ 5حزيران سيكون تاريخا نولد فيه من جديد، بجلود جديدة، وأفكار جديدة، ومنطق جديد.
قصيدتي أمامك يا سيادة الرئيس، أرجو أن تقرأها بكل ما عرفناه عنك من سعة أفق وبعد رؤية، ولسوف تقتنع، برغم ملوحة الكلمات ومرارتها، بأني كنت أنقل عن الواقع بأمانة وصدق، وارسم صورة طبق الأصل لوجوهنا الشاحبة والمرهقة.
لم يكن بإمكاني وبلادي تحترق، الوقوف على الحياد، فحياد الأدب موت له.
لم يكن بوسعي أن أقف أمام جسد أمتي المريض، أعالجه بالأدعية والحجابات والصراعات. فالذي يحب أمته، يا سيادة الرئيس، يطهر جراحها بالكحول، ويكوي - إذا لزم الأمر - المناطق المصابة بالنار.
سيادة الرئيس: إنني أشكو لك الموقف العدائي الذي تقفه مني السلطات الرسمية في مصر، متأثرة بأقوال بعض مرتزقة الكلمة والمتاجرين بها. وأنا لا أطلب شيئا أكثر من سماع صوتي. فمن أبسط قواعد العدالة أن يسمح للكاتب أن يفسر ما كتبه، وللمصلوب أن يسأل عن سبب صلبه.
لا أطالب يا سيادة الرئيس إلا بحرية الحوار، فأنا اشتم في مصر، ولا أحد يعرف لماذا اشتم، وأنا أطعن بوطنيتي وكرامتي لأني كتبت قصيدة، ولا أحد قرأ حرفا من هذه القصيدة.
لقد دخلت قصيدتي كل مدينة عربية، وأثارت جدلا بين المثقفين العرب إيجابا وسلبا، فلماذا أحرم من هذا الحق في مصر وحدها؟ ومتى كانت مصر تغلق أبوابها في وجه الكلمة وتضيق بها؟
يا سيدي الرئيس..
لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه، والمجروح على جراحه، ويسمح باضطهاد شاعر عربي أراد ان يكون شريفا وشجاعا في مواجهة نفسه وأمته، فدفع ثمن صدقه وشجاعته.
يا سيدي الرئيس
لا أصدق أن يحدث هذا في عصرك.
بيروت في 30تشرين الأول (أكتوبر) 1967- نزار قباني
__________________