كتاب أم كلثوم وحكام مصر:
مقدمة:
كنت صغير السن فى جلسات للكبار..كان أبى وخالى وبعض من أقاربنايودعون نهار يومهم بعد أن ظلوا فى حقولهم منذ شروق الشمس على قريتنا المخلصة لجغرافية وطقوس الوطن...يقضون أمسية الليل حول الراديو فوق سطح دارنا ذات الملمح الطينى انتظارا لحفل ام كلثوم وأغنيتها الجديدة..أو خطاب لعبدالناصر ينقلهم إلى غد جديد..خالى المنكفئ على موقد النار لتسوية الشاى على نار هادئة ،يستخرج حكايات عن شكل الناس المحظوظة بحضور حفلات ام كلثوم ومشاهدتها عن قرب ،ويردد أسماء ..السنباطى..بيرم..الشيخ زكريا..القصبجى،وغيرهم،ثم يطلق تنهيدة فكلمة((ياسلام))على ((شمس الاصيل دهبت خوص النخيل))...ينتقل بسلاسة فائقة وخيال خصب إلى حكايات السياسة واحوال الجبهة ، وأخبار الحرب مع اسرائيل ..يشاركه أبى بأقوال من عبدالناصر وحكايات عنه أشبه بالاساطير،وما قاله الراديو من مقال هيكل الشهير ((بصراحة)).
كان الراديو جسرهم الى العالم..أما جلساتهم فكانت عندى العالم كله...
هل كان هذا هو البدء عندى نحو حب عبدالناصر وأم كلثوم ؟..ربما..فمخزون الذكريات يرشدنى إلى ماكنت انقله بشغف فى اليوم التالى لجلسات الكبار من حكايات إلى زملائى التلاميذ فى المدرسة...ويضبطنى عند حكايات اخرى لخالى الثانى الذى عرف طريقه إلى حفلات أم كلثوم بزيه الفلاحى الأنيق ،وذكره لحكايات عن ليل القاهرة وقت هذه الحفلات ،وحكايات اخرى عن بكائه المر هو واصحابه ليلة مشاهدته لهاوسماعه إليها وهى تشدو شجنا
(حسيبك للزمن لا عتاب ولا ندم))..هل كان خالى بجلبابه الفلاحى فى ذهن نجيب محفوظ وهو يقول فى رواية(( ميرامار ))
(ليلة غنائها هى ليلة جميع الطبقات ،والافراد،وصوتها علامة عصربأكمله)).
لم يقف خالى عند هذا الحد من الحكايات بل ظل يقول بتلقائية مدهشة..وقناعة لاتقبل الفصال
(أم كلثوم ماتت يوم مامات جمال عبدالناصر..أنا متأكد من كده..زيها زى موت اغانى الصبايا لما كنا بنجمع القطن !))..فهل هذه مبالغة؟
عرفت فيما بعد ان جلسات الكبار على سطح دارنا..كانت تعبيرا عن حالة جماعية يعيشها الوطن العربى من محيطه الى خليجه..فحين يخطب جمال عبدالناصر،تتوحد كل موجات الاذاعة فى الوطن العربى .منضبطة على خطابه لتستمع الجماهير إلى من امتلك ناصية قلوبهم،وامتلك قدرة سحرية على صياغة أفكارهم وسلوكياتهم ..أما أم كلثوم ،وكما قالت مجلة(( لايف ))الامريكية عام 1962
(فى الساعة العاشرة ليلة الخميس الاول من كل شهر ،يحدث شئ غريب فى الشرق الاوسط..يهدأالضجيج فى شوارع القاهرة فجأة ..وفى الدار البيضاء التى تبعد 2500 ميل إلى الغرب ،يكف الشيوخ عن لعب الطاولة فى المقاهى ..وفى بغداد التى تبعد 800 ميل الى الشرق،يحدث نفس الشئ ..الكل ينتظرون برنامجا معينا تذيعه إذاعة القاهرة ،مدة هذا البرنامج خمس ساعات ،ويذاع ثمانى مرات فى السنة ونجمته مطربة اسمها ام كلثوم)).
ألتقى عبدالناصر وام كلثوم فى لحظة تاريخية ليتبادلا العطاء أعطى لغنائها معنى جديدا،كما قال نجيب محفوظ فى برنامج تليفزيونى فرنسى عنها ،وأعطته صوتها أداة نافذة للتعبير عن أحلامه القومية ..رأى فيها ((بنت زى مصر))حسب تعبير مفكرنا الكبير محمد عودة ، ورأت فيه زعيما نافذا طلع من وسط الناس الآتية منهم.. وإذا كان هو كما يقول الدكتور بطرس غالى
(مثل قيصر..كان يفضل أن يكون الاول فى قريته))فإنها:"لم يكن لديها انكسار بوجة السلطة".كما يقول الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل،ولهذا ظلت الالفة فى مجالها.
بلغ حرص جمال عبدالناصر على ام كلثوم درجة كبيرة بوصفها ثروة وطنية ونموذجا فريدا ،قادرا على اعادة بناء الانسان المصرى والعربى بفن راق...
ولما سألت الدكتور خالد عبدالناصر نجل الزعيم الراحل فى لقاء لى به بمنزله عن علاقة ام كلثوم بمنزل عبدالناصر كشف لى بعض الاشياء يأتى ذكرها فيما بعد.....
ومن جانبى حين قرأت ذات مرة بعض من ركبوا موجة الهجوم على عبدالناصر ..أن الرجل استخدم أم كلثوم كوسيلة تخدير للشعب لصرفة عن أفعاله ،وجدت سخافة القول كلما قمت بقياسه على مخزون داخلى عشته وأعيشه بين فلاحين،كانت كلمات أغنياتها بمثابة الملامسة الراقية لأحاسيسهم .. ملامسة جعلتهم يحفظون قصائد بوزن"أطلال"ناجى،و"رباعيات الخيام"،و"أراك عصى الدمع"لأبى فراس الحمدانى و"حديث الروح "لمحمدإقبال،و"أغدا ألقاك" للهادى أدم،,"هذه ليلتى"لجورج جرداق،و"أقبل الليل"لرامى،و"مصرتتحدث عن نفسها"لحافظ إبراهيم..وغيرها..أما عبدالناصر بالنسبة لهم فلا أحد يستطيع تأليب وجدانهم الصافى نحوه.
ولما سألت الراحل العظيم سعدالدين وهبة قبل رحياه بشهور بوصفه واحد من الذين تعاملوا عن قرب مع أم كلثوم عن هذه النقطة ..انفعل وقال كلاما كثيرا..أما الشاعر الغنائى أحمد شفيق كامل أحد الذين كتبوا أغنيات لها، وشاعر الاغنيات الوطنية الشهيرة فى الخمسينيات والستينيات ززفأبدى تعجبه وأسفه..وكذلك الموسيقار كمال الطويل وغيرهم من الشخصيات التى التقيت بها فى تسجيلات صوتية جاءت مادتها فى هذا الكتاب ..هذا بالاضافة الى العديد من المراجع و الدوريات .
وعلى الرغم من ان نقطةبحثى فى هذا الكتاب كانت علاقة عبدالناصر وأم كلثوم فى سياقها العام والشخصى أيضا-إلا أن أشياء أخرى كثيرة وجدتها وجدتها تتداخل فى هذه اللوحة التاريخية ..فأم كلثوم قبل الثورة ومنذ ان تركت طماى الزهايرة إلى القاهرة ..وجدت فى طريقها احداثا سياسية
يعيشها الوطن منذ ثورة 19 ورمزها سعد زغلول ،أضف الى هذه الاحزاب السياسية القائمة آنذاك ..وحركة سياسية وفكرية تصدرها رموز خالدة..ثم القصر والملك فاروق..صورة وطن ملئ بالتناقضات التى عبرت عنها هى فى اكثر من موضع وأبرزها صفحات من مذكراتها، وهو مايعنى ان خلفية سياسية واجتماعية هائلة عاشتها وشاهدتها مما يؤهلها لفهم الاوضاع المحيطة بها على طريقتها الخاصة وظل هذا بالنسبة لها مخزونا قويا ساهم فى ان يكون اللقاء بينها وبين عبدالناصر كنموذج نقيض لما شاهدته قبله..لقاء طبيعى..
وعليه فإن سيرة هذه السيدة هى سيرة وطن فى مراحل تاريخية امتدت لعشرات السنوات فى القرن العشرين ولاتكتمل الصورة إلا بمعرفة بعض مما احاط بها فى الفترة التالية لرحيل عبدالناصر وكيفية سير علاقتها بالرئيس أنور السادات..
وتأسيسا على هذا سوف نجد الصورة واسعة واللوحة التاريخية متداخلة فى علاقتها بهؤلاء الحكام الثلاثة ..
غير أنى رأيت ان يكون هذا فى سياق رئيسى يبدأ من منطقة الوسط فى حقبتها التاريخية -إن جاز هذا التعبير-وهى منطقة علاقتها بالزعيم الراحل جمال عبدالناصر ..وهى العلاقة التى تداخل فيها الشخصى بالعام ..لتعطى فى النهاية صورة صادقة ..اجتهدت فى نقلها قدر الامكان ..بما فيها من تداخل بين الفن والسياسة ..وتقارب الاشخاص وتباعدهم ..والمعانى الانسانية التى تفاعلت تحت السطح وفوقه لتؤكد أننا أمام بشر -هم قطعة من لحم هذا الوطن-
هذه هى مقدمة الكاتب سعيد الشحات
فى الفصل القادم:
عبدالناصر:"أم كلثوم ..دى بنت جدعة"