(بليغ حمدي، موسيقى في حب الحياة والجمال)...من معهد فؤاد الأول.. إلى حليم وأم كلثوم رحلة إبداع
لم يكن بليغ حمدي يريد من موسيقاه إلا شيئاً واحدا، هو أن تشبهه، أن تحمل هواجسه وهذيانه الروحي وذلك القلق النفسي الذي تبدد صمته في كثير من ألحانه الشفيفة، كروحه التواقة للإبداع، والخلق الموسيقي الذي لم يتأت له إلا بعيد المكوث الطويل في مملكة الموروث وفي كلتا الموسيقتين الفنية العالمة بكلاسيكيتها العالية والشعبية بفطريتها النقية.
-لقد استمد هذا الفنان العبقري الكثير من طاقته الإبداعية في التلحين من سحر الموسيقا العربية، من سحر أزمنتها الإبداعية العالية فكرا وممارسة، وبعد أن تأسس معرفياً وأكاديمياً في أروقة «معهد فؤاد الأول» بدأ رحلته الموسيقية محملاً بآمال وتطلعات في وقت كان الفن الموسيقي العربي لا يزال محافظاً على تقاليده الراسخة، فكان عليه أن يكمل الرسالة عبر اجتراح مساره الموسيقي المختلف عبر التعاون مع رفقة وصحبة جميلة شاركته وقاسمته الفكر والثقافة والهم الإبداعي الواحد، فبدأ حكايته الطويلة مع الروائع الخالدة في الموسيقا والغناء في رحلة ممتدة من زمن الفن الجميل النادر بلغته الأصيلة وبمفرداته الحداثية بآن. هو زمن الخصب الموسيقي ذلك الزمن الذي عايشه بليغ حمدي وكتب من وحيه موسيقا وكلمات وألحان مشرقة بثيماتها ومفردات التعبير والتصوير الوجداني التي تميز بها عن أقرانه من ملحنين كبار، هو بالفعل نسيج وحده في الإبداع الموسيقي وفي مقاربته لحداثة موسيقية أرادها للتأكيد على تناغم الوافد والأصيل، على قدرة النغم العربي في التعبير عن عوالم شعرية ترتقي بالذائقة وتمنحها جرعة صافية من الفن الراقي النظيف، في محاولة لاستعادة المجد الغابر وتلك الريادة التي تحققت عبر مدارس موسيقية كان فيها الموسيقي العربي يجاهد حسب ظروفه وبيئته في أن يتحرر من راهنية اللغة القديمة بموروثها الطربي الأقرب إلى الحسية المشبعة بالغرائز والقيم العابرة.
- هو بليغ حمدي إذا، ذلك الفنان الكبير الذي كتب موسيقاه ولسان حاله يقول لا للأذن الحسية ولا لتلك الطقوس السمع بصرية المريضة، نعم لموسيقا الروح خلاصة روح الموسيقا التي آمن بها، ونجح عبرها في خلق ألفة جمالية ووجدانية مع الطروحات الموسيقية المعاصرة، هكذا فهم بليغ الموسيقا والكلمة واستمد منهما خزينه وخبرته التي حصنها كما قلنا بالعلم والمعرفة والموهبة التي لم تطق صبراً في التعبير عن مكنونها وجوهرها وهي موهبة برأي العديد من النقاد من الصعب أن تتكرر، لتنطلق موسيقاه الفاتنة مع تخونوه رائعة «عبد الحليم حافظ» في خطوة أولى أرادها بليغ حمدي بمنزلة تحية حب للجمهور المتعطش لجماليات الموسيقا العربية، التي اشتغل عليها هؤلاء الرواد الكبار في مسعى حثيث لم ينقطع لخلق واقع موسيقي يتماهى مع «الثورات» الموسيقية التي قامت في كثير من البلدان، إنه زمن الوصول إلى الموسيقا الحقة، الموسيقا التي تسكن قلب الكلمة وتصيخ السمع لوقع رقصتها في بدء الحياة ومنتهاها، هي الموسيقا التي أرضت طموحه كما أرضت عشاق النغم الأصيل، وبهذه الروح التواقة أنشد بليغ حمدي موسيقاه وأغنيته بصوته وأداءه الساحر وعبر أصوات كبيرة في تاريخ الغناء المعاصر «دينيا ووطنيا وعاطفيا» وفي كافة الأنماط والقوالب ما جعل منه أكثر الملحنين العرب غزارة في الإنتاج مع أنه كان لا يكتب موسيقاه إلا بعد تمنع شديد في مزاجية تحكمت بها عوامل وظروف عرف كيف يتكيف معها ويبدع من خلالها هذه السبيكة من الألحان العظيمة التي حققت له مكانة مهمة في تاريخ الموسيقا العربية المعاصر.
- من أهم أعماله التي توزعت مابين الموسيقا والغناء والمسرح والإذاعة والتلفزيون والسينما ألحانه لعبد الحليم حافظ:خسارة، خايف مرة أحب من كلمات مأمون الشناوي، أعز الناس كلمات مرسي جميل عزيز، التوبة وعدى النهار والمسيح، والهوى هوايا للشاعر عبد الرحمن الأبنودي، سواح وجانا الهوى وفدائي وموعود، وزي الهوى ومداح القمر وأي دمعة حزن لمحمد حمزة، وقدم لأم كلثوم روائع خالدة من أشهرها: أنساك، بعيد عنك، أنا وأنت ظلمنا الحب، الحب كله، فات الميعاد، وحب ايه، وسيرة الحب وأعطى رفيقة حياته الكبيرة وردة أجمل ما غنت: خليك هنا، العيون السود، دندنه، احضنوا الأيام، حكايتي مع الزمان، وحشتوني، وبودعك وغنت شادية من ألحانه: والنبي وحشتنا، عالي، الحنة، قولوا لعين الشمس، عطشان يا صبايا، خلاص مسافر، والله يا زمن، وأعطى نجاة الصغيرة: أنا بستناك، الطير المسافر، ليلة من الليالي، في وسط الطريق سكة العاشقين، وغنى محرم فؤاد من ألحانه: سلامات، متى أشوفك، غزال إسكندراني ومحمد رشدي: عدوية، مغرم صبابة، طاير يا هوى وغيرها، ولصباح:عاشقة وغلبانة، يانا يانا، جاني وطلب السماح ولميادة الحناوي: الحب اللي كان وأنا بعشقك، مش عوايدك، فاتت سنة، سيدي أنا، حبينا وتحبينا وغيرها من ألحان كما غنى من ألحانه عزيزة جلال وسميرة سعيد ولطيفة وهاني شاكر ومحمد الحلو وعلي الحجار وطلال المداح وذكرى وغيرهم والعديد من الأعمال للمسرح والسينما والإذاعة والوطنيات الخالدة والابتهالات الدينية التي شدا بها «سيد النقشبندي» وعبرها جميعاً كانت روح هذا الكبير تكتب موسيقا الشجن في حب الحياة والجمال، تكتب حضورها المضيء في ذاكرة الفن المعاصر، الذي كان بليغ حمدي بالفعل أحد فرسانه النبلاء الكبار.
جريده الوطن 19-11-2012