هذا مافعله عبدالحليم حافظ
بعيداً عن المشهد السياسى الكئيب فى مصر أريد أن أتوقف عند حادثة انتحار عدة فتيات يوم وفاة عبدالحليم حافظ فى سبعينيات القرن العشرين. يخطئ من يظن أن عبدالحليم كان المطرب العاطفى الأول فى مصر وكان ملك الرومانسية لذا انتحرت المراهقات يوم وفاته. عبدالحليم بدأ عصرا جديدا لعلاقة الرجل بالمرأة فى القرن العشرين فى الشرق الأوسط والعالم بأكملة. وما نعَتْه السيدات يوم وفاته هو انتهاء هذا العصر.
من يتابع السينما العربية والأمريكية فى فترة الأربعينيات والخمسينيات يعلم جيدا الدور المفروض على المرأة فى تلك الفترة. هى الفتاة الخجولة، هى ربة المنزل الجيدة، هى من تُطيع الرجل وتترك له القيادة وهى من تعتدل وتتزن بعد صفعة قوية من كلارك جابل أو أنور وجدى. المرأة جميلة شقراء بقوام متناسق يسر الناظرين. المرأة مطيعة لزوجها وليس لأمها وليست نمرودة، المرأة بتهديد من حسين صدقى بالطلاق كما فى فيلم «العزيمة» تفهم خطأها وتعود إلى دفء الرجل تابعا مطيعا، تقف بجانب الزوج فى محنته ولا تقود ولا تتمرد، المرأة مثلها مثل الشعب يطيع حكومته وأولى الأمر.
ثم جاء عبد الحليم بأفلام فترة الستينات ليغيّر مجرى الامور و يقلب العلاقة رأسا على عقب.
لم يصفع امرأة فى أفلامه لتفيق وتعود لصوابها بل كان يتقبل هو الصفعات من الرجال من أجل حبه واحترامه لامرأة. ولم نشعر يوما فى أفلامه بأن هناك علاقة ولى أمر بين المرأة والرجل بل إن عبدالحليم ثار على ولى أمره هو من أجل امرأة. كان عبدالحليم فى فيلم الخطايا مثلا يعامل نادية لطفى طالبة الهندسة معاملة الند، بل كان يدرك تفوقها ويطلب منها أن تساعده دراسيا، كانت تأخذ هى خطوة المبادرة وتقرر الزواج منه ولم يكن يتعامل معها كدمية بل كعقل يعمل ويفكر، كان هو شابا ثائرا وكانت هى أيضا ثائرة قوية، وكان زمن الثورة.
وفى فيلمه الجميل يوم من عمرى مع زبيدة ثروت كانت المرأة تُحترم، عندما حاول أن يدعوها لتأكل معه الحلويات أدرك أنه لا يملك حتى المال ليدفع لها، أدرك ضعفه كرجل وقدرتها كأمرأة وعندما أخبرته بمشكلة الفتاة التى يريد أهلها تزويجها رغما عنها لرجل لا تعرفه قال فى غضب إنه فى مصر الجديدة وهذا العصر الذى تعيشه مصر لابد للمرأة أن تختار شريك حياتها.
كان عبدالحليم ثائرا يعيد تركيبة الرجل والمرأة ليس فى العالم العربى فقط بل فى العالم أجمع، بينما فى أمريكا كانت المرأة لم تزل سيدة منزل فى أفلام الستينيات والرجل يخرج ليدافع عنها، كان عبدالحليم يشارك المرأة البطولة جنبا إلى جنب ويتوقع منها أن تكون شريكا محترما فى الحياة لا تابعا مطيعا. المرأة التى يحبها متعلمة، تتكلم بطلاقة وتأخذ خطوة المبادرة، المرأة التى أحبها لا تجلس فى قفص حريم ولا تبتذل نفسها لإرضاء رجل، بل تحب وتحترم نفسها أولا ثم الرجل ثانيا.
من انتحر يوم موته كان من أدرك أن زمن المرأة المتعلمة الشريكة فى الحياة يتلاشى ويأتى بدلا منه زمن تُهان فيه المرأة ويُهان جسدها ويُهان الرجل ويُغتصب أيضا. جاء زمن أصبح عبدالحليم ذكرى وأصبح لابد للمراة من التضحية بكل شىء لتعيش، فقط لتعيش. هكذا عصور الديكتاتورية وهكذا يبدأ عصر الظلمات.
تُرى هل استشف من بكى على عبدالحليم أن هذه هى نهاية قصة الحب بين الرجل والمرأة فى بلادنا.