جريمة قتل نجاة الصغيرة لعاشقها المجنون كامل الشناوي
محمد فتحي يونس
4/8/2009 11:06:00 AM GMT
جريدة السياسي الالكترونية
عاش رافعا قلبه أمامه، يتحسس به خطاه في الدنيا، يتلقى الضربات نيابة عنه فيزداد نزيفه، ويتحول إلى مداد على ورق لا يلبث أن يختلط بدموعنا عندما نقرؤه.. هكذا كان كامل الشناوي أمير شعراء الحب، وشيخ مشايخ الطرق العاطفية في مصر الستينيات.
حينما تتأمل تفاصيله تجده كائنا قفز لتوه من صفحات التاريخ، ليبشرنا بالحب ويمنح معنى مقدسا للحياة، يختلط فيه العشق بالعذاب بالسخرية، يمتصه من الدنيا كرحيق، ويقدمه لنا في حفنة من الكلمات.
ولد الشناوي في قرية "نوسا البحر" بالمنصورة شمال مصر، لأب عمل بالقضاء الشرعي، وأسرة متدينة، في 7 ديسمبر 1908، وسماه أبوه مصطفى كامل تيمنا باسم الزعيم الوطني مصطفى كامل الذي كافح الاحتلال الإنجليزي في ذلك الوقت.
قضى طفولته منعزلا إلى حد كبير، وكان السبب في البداية حرص الأسرة على إخفائه عن عيون الناس لسمنته الواضحة، وكانت دليل نعمة في ذاك الوقت. لكن سرعان ما أدرك الطفل أنه موضع سخرية من أقرانه فآثر العزلة، حتى أن الصحفي الكبير محمد التابعي رآه مرة في طفولته مرتديا جلبابا يخفي إحدى ذراعيه داخله، فاندهش من المنظر، ومع رجم الأطفال له "لماذا تخفي ذراعك؟" فرد عليه "يمكن يفتكروا إن يدي مقطوعة أصعب عليهم".. نوع من المقاومة الرحيمة عرفه كامل في طفولته، فكان يخاطب المشاعر ليتجنب الأذى.
أمنت العزلة للطفل كامل وقتا كافيا لقراءة مكتبة أبيه الزاخرة بكتب التراث، وعيون الشعر العربي، كانت كل الطرق تؤدي به إلى الأزهر ليصبح فقيها، لكن القدر خبأ له طريقا آخر، فبعد خمس سنوات في الأزهر، وانتقال الأسرة إلى حي السيدة زينب بالقاهرة، التقى بالشعراء إبراهيم ناجي وعلى محمود طه، وعبد العزيز الهمشري، ومجموعة من مثقفي عصره، أدرك أن الأدب والصحافة هي حرفته التي سترافقه طوال حياته، فانضم إلى صحيفة "كوكب الشرق" مصححا لغويا، وفي الوقت نفسه بدأ كتابة الشعر الذي أظهر فيه موهبة راقية، ثم راسل الصحف الأدبية على أمل أن تنشر له شيئا.
وفي تلك الأثناء لجأ إلى حيلة ليضمن نشر شعره في جريدة الأهرام، التي كان يرأس الصفحة الأدبية فيها ناقد تعجبه الكلمات القديمة الجزلة، فبدأ الشناوي قصيدة له تقول:" سلاما صباحا لا يعم ولا يجري.. وألما بها ولا ندري" وبالفعل نشرتها الأهرام رغم ضحالة معانيها. وكان الشناوي يقصد السخرية منهم بالطبع.
لكن كان ميلاد كامل الشناوي الحقيقي كشاعر عام 1930، عندما نشرت له البلاغ، قصيدة أعجب بها أمير الشعراء أحمد شوقي وطلب مقابلته، ومن هنا تعرف عليه الوسط الأدبي في مصر كشاعر كبير وتزامن لمعانه الشعري مع لمعانه في الصحافة، فعمل مع طه حسين في مجلة الوادي ثم انتقل إلى الأهرام.. ومنها رئيسا لتحرير آخر ساعة ثم أخبار اليوم رئيسا لقسم الأخبار، ورئيسا لتحرير الجمهورية عام 1955.
لم يكن الرجل كاتبا أو صحفيا عاديا تقرأ كلماته فتعجبك أو لا تهتم بها، بل مثل ظاهرة فريدة في الصحافة العربية، فقد اعتبر قاعدة لانطلاق النجوم، "أنفه يشد المواهب" والتعبير للدكتور يوسف إدريس، ثم يرعى تلك الموهبة إلى أن تتحول إلى نجم، وعندها يتركها ويتجه الى غيرها.
وقد شهد بذلك صلاح حافظ حين قال:" لا أعرف أديبا أو فنانا غير مدين لكامل الشناوي، ولا أقصد الدين الثقافي وحده بل المادي أيضا.. يشتري الكتب للأديب الناشئ، يصحبه إلى الترزي، ليفصل له ثيابا أفضل، يخصص له حجرة في بيته للإقامة، ينشر له في الصحيفة التي يعمل بها دون أن يخبره".
هكذا كان الرجل يسعد بنجاح غيره، حتى اتسعت الدائرة حوله في سهراته لتشمل العشرات يأنس بهم، ويسامرهم طوال الليل، فقد كان يكره النوم خوفا من الموت "أنا لا أجلس مع الناس لأقتل الوقت بل لأخلق النبض في حياتي".
تلك كانت حكمته التي آمن بها، وطبقها بشجاعة رغم حرمانه منها لبعض الوقت عندما اجتمع عبد الناصر مع رؤساء التحرير، وكان هو بينهم ولفت ناصر نظرهم للسهرات الصحفية، ونميمتهم، ففهم الشناوي أنه المقصود؛ فاعتزل في بيته أياما لا يتكلم مع أحد حتى جاءه أحد المسؤولين يخبره بإزالة سوء الفهم، فعاد للتألق في ليالي القاهرة.
الساخر الأعظم
كان كامل الشناوي ساخرا أعظم، لا يكف عن إطلاق النكات والقفشات، ومن هنا التف حوله المثقفون، ينهلون من ثقافته ويستمعون لنكاته.
ومن أبرز نوادره عندما جلس مع الشاعر الصعلوك عبد الحميد الديب وفجأة أخرج من جيبه عشرة جنيهات وصابونة، ثم نظر إليها قائلا "الأستاذ الديب شاعر" ثم اتجه إلى الديب قائلا "عشرة جنيهات وهذه صابونة" في إشارة إلى عدم معرفة الديب لهما من قبل.
ومن المعروف عنه كرهه لمدعي الموهبة، ولذلك جاء شاب ذات مرة يسأله هل أكتب قصة أم شعرا، فرد الشناوي قائلا: الأنسب أن تكتب قصة، فرد الشاب: هل قرأت لي قصصا من قبل؟ فقال الشناوي: لا، قرأت شعرا.
ولم يسلم أفراد عائلته من سخريته، فذات مرة وهو في مطلع صباه أراد أن يشتري مجلة "اللطائف المصورة" ولكن مصروفه كان قد فأخبر أخاه مأمونا أن المجلة بها صور كل تلاميذ مدرسته، وبالتالي اشتراها على وجه السرعة، وقرأها كامل.
وفي إحدى المرات دخل عليه أبوه، وهو يلعب الورق، على سبيل التسلية، فصرخ أبوه وكان أزهريا متدينا "أتلعب القمار يا كامل؟! فرد عليه:" لا يا بابا ده بوكر والله العظيم"، وبالطبع لم يفطن الوالد أن البوكر أحد أنواع القمار.
وعندما تخرج أخوه المعتز من كلية الحقوق وافتتح مكتبا للمحاماة، كتب لوحة إعلانية تدل على أن مكتبه أمام المحكمة الشرعية، فتسلل كامل إليها وكتب مكان كلمة أمام "خلف"، وبالتالي لم يعرف أحد مكان المكتب.
ومن أشهر نوادره عندما وصف له الطبيب طبقا من التين المجفف واللبن يوميا، واكتشف بمرور الوقت أن أحدا ما يأكل أغلب الطبق صباح كل يوم، فأراد أن يكتشف الجاني، فجمع إخوته وقال لهم إن الطبيب وصف له "كمادات" من اللبن والتين" يضعها على أسنانه ليخفف آلامها، وحذرهم من أكلها، فما كان من أخيه عبد الرحيم إلا أن أمسك بطنه وبدأ التقيؤ فعرف أنه سارق التين.
وفي إحدى سهراته مع عبد الوهاب في أحد الفنادق قام أحد المخمورين وسب عبد الوهاب، وحاول الاعتداء عليه، فكتب ساخرا:
"ما أصعبه
ما أعجبه
ما أغربه
يا ليت إنسانا بمد الكف كان هذبه
وعلى الرصيف وضبه
وشده واغتصبه
ونال منه مأربه"..
الشجن والعذاب
كان مفهوم الحب عند الشناوي مختلفا، فهو حب بلا آخر، وفي نظره أن الحب الناجح هو الحب الفاشل، يبحث عن عذابه فيه، وبعد فترة يعيد الكرة مرة أخرى.
"أنا عمر بلا شباب
وحياة بلا ربيع
أشتري الحب بالعذاب
أشتريه فمن يبيع"..
وقد وصف مصطفى أمين عواصف الشناوي العاطفية، فقال "إن قلبه مثل برامج السينما، تتغير كل أسبوع، ومثل جمهوريات أمريكا اللاتينية مليئة بالانقلابات".
وقد اعترف الشناوي بسبب ذلك وقال "إن قلبي لا يطيق أن يتسكع بين ضلوعي، لذا فهو حريص على ألا يعتزل الحب، حتى لا يتعرض للبطالة".
وقد بدأت أولى غرامياته مع قريبة لعائلته، أحبها في صمت ولم يجرؤ على مصارحتها. ثم كانت فتاة المعادي التي غيرت مجرى حياته، وهي فتاة كانت تستعد للدراسة في فرنسا، وكان يدرّس لها الفرنسية، تنتمي للطبقة الأرستقراطية، وقع في حبها، وغير هيئته من أجلها، واتبع آخر صيحات الموضة، وتعلم أصول الإتيكيت، لكن النهاية كانت أيضا حزينة:
"المعادي أو نفحة من هواها
تودِع النفسُ في شذاها الجنونا
المعادي فقد تركت فؤادي
في رثاها مشردا مجنونا".
وتوالت بعدها قصص الحب الفاشلة.
والغريب أن الشناوي رفض الزواج، وقد علل ذلك بقوله "إن وجودي في الحياة مشكلة، وأنا لا أريد أن أنجب مشاكل أخرى" لكن الأغرب أنه كان بالفعل على وشك الزواج، وتقدم بالفعل لفتاة على صلة قرابة بمحمد التابعي، وأبدى أهلها موافقتهم المبدئية، لكن بعد أيام فوجئ برفضهم، وكان السبب هو التابعي نفسه رغم أنه صديقه.. وبعدها بسنوات عاتبه الشناوي على هذا الموقف فأجابه قائلا "أنت تعرف مدى حبي لك، لكنك تقضي الليل في سهراتك، والنهار في عملك، وهي صبية صغيرة لن تتحملك" فاقتنع الشناوي، وعندما قابلها بعد سنوات كتب كلماته الشجية:
"كل ما أذكره أنّا انتهينا
وتولاني الضياع
حين أبصرتُ الوداع
لا تُثرْ حوليَ ضجّة
فلقد أصبحتُ زوجة"..
ثم ترك لقلبه العنان، ما أن يخرج من مغامرة حتى يدخل في أخرى، فأحب كاميليا الراقصة المشهورة وقتئذ، وكتب فيها كلماته:
"لن أقوى على هواكِ وما لي
آمل فيك ما رفقي بخيالي
إن بعض الجمال يذهل قلبي
عن ضلوعي فكيف كل الجمال"..
وكان عبد الوهاب حاضرا، فلحن الكلمات ثم غنتها أم كلثوم في نفس السهرة، فكان لقاء السحاب الأول بينهما. ثم أحب نور الهدى بشدة وكانت مشكلته في مقابلتها أن والدها كان يصاحبها في كل مكان، فلجأ إلى حيلة للتخلص منه عندما عرف إدمانه للقمار، فكان يشاركه اللعب ويتعمد الخسارة ليضمن لقاء حبيبته.
وفي مرحلة الكهولة لم تتوقف نيران حبه للدرجة التي خجل فيها من قلبه وخاطبه قائلا "احتشم يا قلبي. فالحب طيش وشباب وأنت طيش فقط".
وكانت قصته الأشهر مع نجاة هي الأكثر خلودا، فلقد أحبها بجنون ولم تبادله وفاءه، وكان يعلم ذلك لكنه لا يستطيع أن يتوقف عن حبها، بل كان عذابه يستوحش أثناء الخصام فلا يتحمل بُعدها "افهميني على حقيقتي.. إنني لا أجري وراءك بل أجري وراء دموعي"... هكذا كتب اليها ذات مرة في إحدى نوبات عشقه.
ولقد تعرض الشناوي لكثير من الصدمات أثناء حبه لنجاة الصغيرة، كان أبرزها عام 1962 في عيد ميلادها عندما اشترى هدايا الحفل، وحضر برفقة أصدقائه في شقتها بالزمالك، وعند إطفاء الشموع اختارت يوسف إدريس ليقطع التورتة معها ممسكا بيدها، فانسحب الشناوي حزينا باكيا، ثم تضاعفت أحزانه حين رآهما يخوناه، فكتب كلماته التي تقطر أسى..
"لا تكذبي إني رأيتكما معا
ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا
ما أهون الدمع الجسور إذا جرى
من عينِ كاذبةٍ
فأنكر وادّعى"..
وفي أحد الأيام ذهب لمصطفى أمين ومعه قصيدته، فاتصل بنجاة على أمل أن تغنيها، وألقاها عليها في الهاتف كامل الشناوي بصوت منتحب، وبعد انتهائه فوجئ برد بارد "الله حلوة قوى الأغنية" وكأنها لا تدري أنها كتبت فيها.
وقد عبر الشناوي بقوله "إنها تحتل قلبي.. تتصرف فيه كما لو كان بيتها تكنسه وتمسحه وتعيد ترتيب الأثاث وتقابل فيه كل الناس.. شخص واحد تتهرب منه. صاحب البيت".
ثم عبر عن خيانتها له بقوله "هل ألعنها أم ألعن الزمن.. كانت تتخاطفها الأعين فصارت تتخاطفها الأيدي".
ثم كتب قصيدته الرائعة التي غناها عبد الحليم حافظ:
"حبيبها لست وحدك
حبيبها أنا قبلك
وربما جئت بعدك
وربما كنت مثلك"..
وفي إحدى المرات شاهد أحد محبيها يتودد إليها، فكتب ساخرا:" إنها كالدنيا.. لا تبقى ولا تتجدد إلا إذا خرج من حياتها أناس.. ما أكثر الذين شاهدتهم وهم يغادرونها وما أكثر المواليد الذين رأيتهم على بابها".
العودة
عاش الشناوي حياته بالطول والعرض، يكتب ويسهر ويحب ويطلق النجوم إلى الشهرة، ورغم تكالب الأمراض على جسده إلا أنه كان يتعامل مع المرض على طريقة وداوني بالتي كانت هي الداء، وكانت فلسفته في الحياة "نظام الأطباء يطيل عمري لكنه لن يطيل حياتي".
فكان يهمل دواءه ونظامه الغذائي، وهو ما عرضه لعدة أزمات صحية، كان أخطرها قبيل وفاته بعام، عندما دخل في غيبوبة وأفاق منها بما يشبه المعجزة، وبعده علق ساخرا "كانت بروفة للموت".
وقد تعامل الشناوي مع عمره بواقعية، فكانت حكمته الدائمة "عمري مثل ديوني، أسدده على أقساط" ومن هنا كره الاحتفال بعيد ميلاده، وكتب:
"عدت يا يوم مولدي
عدت يا أيها الشقي
الصبا قد ضاع مني
وكسا الشيب مفرقي
ليت يا يوم مولدي
كنتَ يوما بلا غد"..
وفي ديسمبر 1965 دخلت عليه نهلة القدسي زوجة عبد الوهاب وهو على فراش مرضه الأخير قائلة "إن شاء الله هتقوم بالسلامة"، فأشار إليها بيده نافيا، وكانت رقدته الأخيرة .."كل ما كان لم يكن، ولم أعد أنا".