الأحد 27 كانون أول 2009م
10 محرم 1431 هـ
جريدة الغد
منى شكري
عمّان- فجأة ومن دون مقدمات، انهالت على المطرب الشعبي الأشهر أحمد عدوية عروض من نجوم ونجمات، خصوصا من لبنان، للظفر بإحدى أغنياته القديمة وإعادة توزيعها أو لتصوير أغنيات جديدة معه، وقد بلغت ذروة تلك العروض بعد النجاح الكبير مؤخراً لدويتو "الناس الرايقة" الذي ربما حقق لرامي عياش مستوى نجاح لطالما غاب عنه منذ "بغنيلا وبدقلا"، متكئا على تاريخ الأب الروحي للأغنية الشعبية الذي بالكاد يستطيع الحركة نتيجة غيبوبة ليلة مشؤومة عام 1989 نالت كثيراً من نظرة الجمهور له ومن بهلوانيات صوته الذي تسيّد به عرش الأغنية الشعبية بلا منازع طوال أكثر من 15 عاماً.
هي ذات الأغنيات التي عرّضته لهجوم قاسٍ وعنيف بمجرد ظهور أولها "سلامتها أم حسن" في العام 1973، وصلت حدّ وصفه بأنه رمز للغناء الرديء رغم النجاح الجماهيري الكاسح الذي حققته خصوصا بين الفئات الشعبية، فتم تحميله وِزر الإساءة للذوق العام وحُظرت إذاعة أغانيه في الإذاعة والتلفزيون، بل إن هناك من طالبوا بضرورة منعه من الغناء ولو بالقوة. رغم أنه ليس أول من غنى هذا النوع من الكلمات، إذ سبقته عايدة الشاعر بـ"كايدة العزّال أنا من يومي" و"الطشت قلي" التي أذاعتها الإذاعة المصرية العام 1968.
عند ظهوره، لم يجد أحمد مرسي علي عدوية المولود في العام 1945 من المثقفين من يدافع عنه سوى قلة أمثال؛ أحمد فؤاد نجم الذي اعتبره خليفته في التسلل إلى روح الشعب المصري، ونجيب محفوظ الذي وصفه بمطرب عبثي يغني لشعب فقد الثقة في كل شيء بما في ذلك مطربو "الغناء الرسمي" الذين بشروا الشعب بأحلام لم تتحقق خصوصا بعد هزيمة 1967، وكأنه بذلك يلمح إلى واحد من عوامل نجاحه.
هو ليس رائد الأغنية الشعبية، لكنه بالتأكيد صاحب الأثر الأكبر في مسيرتها، بمدرسة جديدة في الغناء الشعبي تختلف عمّا قدمه قبله محمد عبد المطلب، ومحمد رشدي، ومحمد العزبي، فنقله إلى مستويات الانتشار الشعبوي بعد أن كانت هذه الأغاني تتحرك باستحياء في عصر الغناء الرومانسي لتجد فيه الحارة الشعبية من يعبّر عنها من دون تزويق مستخدماً الألفاظ الحقيقية التي يتداولها الكادحون في حياتهم ملامساً همومهم اليومية "زحمة يا دنيا زحمة.. زحمة وتاهو الحبايب.. زحمة ولاعدش رحمة.. مولد وصاحبه غايب".
البداية كانت العام 1969 في شارع محمد علي بالقاهرة، الذي سكنه سبعة أعوام وتحديدا في قهوة الآلاتية التي كانت تجمع مطربي الأفراح، لتقوده الصدفة في العام 1972 للغناء في عيد ميلاد المطربة شريفة فاضل، وكان من بين الحضور مكتشفه مأمون الشناوي الذي قدمه لشركة صوت الحب التي أطلقت ألبومه الأول.
لقد وقف عبدالحليم حافظ في عز نجاحه حائرا أمام ظاهرة عدوية التي لم يملك إلا القبول بها من دون اصطدام لا كما فعل مع محمد رشدي، حتى أنه أراد أن يغني أغنية عدوية الشهيرة "السح الدح إمبو" لولا منع عبد الوهاب له، الذي وصفه رغم ذلك بأنه صاحب "أجمل صوت شعبي سمعته في حياتي". لينتهز العندليب ذات عرس عام 1976 في أحد فنادق القاهرة ويغنيها فعلا تحت إلحاح الحضور، ليرد عليه عدوية بغناء "خسارة خسارة".
مثّلت كلمات مثل "كركشنجي دبح كبشه" صدمة للنقاد رغم أن كاتبها هو الشاعر مأمون الشناوي الذي كتب "بعيد عنك" و"دارت الأيام" لأم كلثوم، وكذلك أغنية "بنج بنج" التي كانت من بين خمس أغنيات لحنها له بليغ حمدي، إضافة إلى أغنية "مجنون" التي كتبها صلاح جاهين، وسيد مكاوي لحن له "سيب وأنا اسيب"، وأكثر من نصف أغنياته لحنها حسن أبو السعود. بل إن فرقته كانت تضم خيرة عازفي مصر أمثال؛ عازف الكمان عبده داغر وفنان الترومبيت الأشهر سامي البابلي.
كان عدوية أول مطرب عربي يتخطى حاجز المليون نسخة مع ألبوم "يا بنت السلطان" (1977) الذي مثل ذروة نجاحه "يا بنت السلطان حنّي على الغلبان.. سعيدة يا حلوة سعيدة يلي بلادك بعيدة.. شاوري وأنا جيلك ماشي.. من شبرا لمصر الجديدة".
ولم تفوّت السينما فرصة استغلال القادم الجديد ليدخل التمثيل على يد المخرج سيد طنطاوي الذي أنتج له فيلم "خدعتني امرأة" مع حسين فهمي، ليظهر بعدها في أكثر من عشرين فيلما رغم إمكاناته التمثيلية المتواضعة، التي رسخت صورته "مطربا للعوالم" في معظمها.
البعض لم يعتبر نجاحه ظاهرة عبثية، بل علامة فارقة تؤرخ لمرحلة جديدة في ظل الصدمة التي أعقبت نكسة حزيران وما تلاها من صعوبة الحياة وتسارع عجلتها وضغط ارتفاع الأسعار في عصر الانفتاح، الذي شهد تفشّي الكاسيت، الذي كان عدوية مطربه الأول بامتياز، مع المصريين العائدين من الخليج بعد ثورة أسعار النفط في السبعينيات، ليُخلق واقع جديد أنذر بانحسار عصر الأغنية الجادة خصوصا بعد رحيل عمالقتها فريد الأطرش (1974) وأم كلثوم (1975) وعبدالحليم حافظ (1977) لتصبح الساحة ممهدة تماما للتعبيرات المباشرة الفظة والطريفة في آن "ما بلاش اللون دا معانا ما بلاش حركاتك ديّا"، و"حصل إيه مننا يا أخينا توعدنا ولا بتجينا"، "كله على كله ولما تشوفه قوله".
لا أحد يعرف ماذا كان يمكن لعدوية أن يضيفه لولا ما ألمّ به بعد تلك السهرة الصاخبة التي امتزج فيها الغناء بالمخدرات، كما تنبأ المخرج علي عبدالخالق في تصويرهما مترادفين في إفساد العقل في رائعته "الكيف" (1985)، لكنه ما يزال يعتبر عند محبيه "فنان الشعب" ورائدا كبيرا من رواد الأغنية المصرية، رغم أنه لم يتمكن من انتزاع هذا الاعتراف من نقابة المهن الموسيقية في بلده الذي لم يقدم له أي تكريم رسمي رغم ما لاقاه من احتفاء وجوائز خارجه.
إن أية مقارنة بين عدوية وجيل "الشعبيين" الحالي هي بالتأكيد في غير محلها في ظل ما تمكن من تحقيقه في عصر العمالقة متمرداً على نمط من الغناء ساد ردحاً طويلاً، بينما نجح غيره في عصر انحدار فني ما يزال متهماً حتى اليوم بأنه هو عرّابه الأول.