ذا أردت أن تعرف الرأى فى فنان أنصحك لا تسأل الفنان عن رأيه فى زميله الفنان.. سوف تجد أن هذا الرأى مغلف بالغيرة التى تنبت لها مخالب قاتلة تدفعها الكراهية العمياء التى لا ترى سوى اللون الأسود، على الجانب الآخر من الممكن أن تجد الحب الأعمى الذى يشاهد فقط اللون الأبيض، وفى الحالتين لن تصل إلى الحقيقة.. عدد قليل جدا من الفنانين يعبرون عن قناعتهم دون مواربة، ومن هؤلاء وردة، فهى عادة تعلن عن آرائها بلا حسابات أو حساسيات. شاهدتها فى حلقة مسجلة على إحدى الفضائيات سألها المذيع عن الفارق بين عبد الوهاب وبليغ حمدى، قالت «عبد الوهاب أستاذ وعبقرى وترزى، أما بليغ فإنه عبقرى وبوهيمى وتلقائى»!
وأضافت لتوضيح الفارق بين الترزى والتلقائى فأشارت إلى ملابسها وقالت «عبد الوهاب هو الترزى الشاطر الذى يستطيع أن يضع قطعة من هنا وقطعة من هناك بتفاصيل صغيرة يمزجها معا ليقدم فستانا رائعا.. بليغ حمدى يأتى إليه الإلهام دون أن يبذل جهدا، يُنعم الله عليه بأنغام من السماء فيقدم فى لحظة واحدة الفستان كاملا».. ربما لا تعرف وردة أن عبد الوهاب كان يرى فى بليغ رؤية قريبة مما ذكرته، فكان يقول إن بليغ كثيرا ما تأتى إليه جمل موسيقية عبقرية تطارده.. إلا أنه يضيف «ولكنه كثيرا ما يهدرها ويصدر هذه النغمات كما هى دون أن يهذبها.. يقدمها للناس بعبلها»!
تحمل كلمات عبد الوهاب كل ما تقوله وردة فى النصف الأول، لكنها فى الثانى تنفى عنه أشياء رائعة لم تكن وردة بحاجة إلى ذكرها، لأن إبداع بليغ حمدى لا يزال يحتل المركز الأول وبالأرقام.. مرت قبل أيام ذكرى بليغ الثامنة عشرة، عبد الوهاب رحل عام 1991 وبليغ حمدى بعده بعامين، لو عدنا إلى أرقام جمعية المؤلفين والملحنين ورصدنا الأداء العلنى الذى يعبّر عن كثافة تداول الأغانى فى الأسواق على الكاسيت والسى دى وأيضا مختلف الإذاعات والقنوات الفضائية فسوف تكتشف أن بليغ حمدى يحقق الرقم الأعلى فى ربع القرن الأخير. البعض يقول إن الإبداع ليس مجرد رقم فى شباك التذاكر أو فى منافذ البيع، أوافق على هذا الرأى، إلا أننا أيضا فى نفس الوقت من الممكن أن نرى الرقم من زاوية أخرى هى أن هذه الألحان عاشت، أى أن بها عمقا إبداعيا حقيقيا منحها حياة مع الناس، والدليل أن أفضل عشرة ألحان لا تزال ترددها الناس من غناء أم كلثوم -أيضا بالأرقام- تجد أن بليغ حمدى له من بينها 6 ألحان هى «سيرة الحب»، و«بعيد عنك»، و«الحب كله»، و«ألف ليلة وليلة»، و«فات الميعاد»، و«أنساك؟»، وبعض هذه الألحان مر عليه 50 عاما، وهذا يعنى أن الأرقام تحمل أيضا شهادة على تفرد الإبداع.. لو قلنا إن عبد الوهاب كثير الصنعة الموسيقية قليل الإلهام، بينما بليغ كثير الإلهام قليل الصنعة، فلا أتصور أننا نبتعد عن الحقيقة.. عبد الوهاب عقل على أطرافه عاطفة، وبليغ عاطفة على أطرافها عقل!
كانت العلاقة بين عبد الوهاب وبليغ بها قدر من التنافس وربما الغيرة.. بليغ بين الحين والآخر يعلن رأيا سلبيا فى بعض ألحان عبد الوهاب ردا على آراء مماثلة من عبد الوهاب فى ألحانه.. مثلا فى عام 64 عندما غنت أم كلثوم «إنت عمرى» وهللت الصحافة للقاء الأول بين عبد الوهاب وأم كلثوم وأطلقت على الأغنية «لقاء السحاب»، كان بليغ يرى «إنت عمرى» مجرد لقاء عادى صنعت منه الصحافة حدثا تاريخيا!
إلا أن الأيام أثبتت أن «إنت عمرى» واحدة من أفضل ما غنت أم كلثوم، وحلق من خلالها عبد الوهاب موسيقيا إلى آفاق رحبة، والأيام أثبتت أيضا أن قيمة إبداع بليغ تزداد مع مرور السنين. إنهم مبدعون كبار، الصدق ينضح فى ألحانهم، ولكن آراءهم ليست دائما كذلك!