عبد الوهاب فى عيونهم!
بقلم: طارق الشناوي
جريدة التحرير
هل كان الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب يؤمن بأن النجاح يساوى فقط عبد الوهاب؟! اليوم يمر 22 عاما على رحيل موسيقار الأجيال، الذى ظل ممسكا بالضوء حتى وصل إلى التسعين من عمره.
عندما نتناول شخصية محورية فى زمانها مثل عبد الوهاب من الممكن أن تُطل عليه بالعديد من الزوايا.
هذه المرة أراه بعيون ثلاثة من الملحنين شكلوا الجيل التالى الذى خرج من معطف الأستاذ وفى نفس الوقت تمرد على الأستاذ. الموجى والطويل وبليغ، الموجى كان أكثر الثلاثة اعترافا بالأستاذ فهو مثله الأعلى، تمنى أن يصبح عبد الوهاب، ولهذا تقدم للإذاعة كمطرب، لولا أن لجنة الاختيار رفضته بالإجماع مطربا، ومنحته الموافقة بالإجماع ملحنا، الموجى كان يناله بين الحين والآخر ضربات وهابية، منها أنه قد يسطو على لحن له، ولكن الموجى كان يغضب فى حضرة الأستاذ ثم يلتزم الصمت إعلاميا بعد ذلك، الطويل كان على النقيض من الموجى، يعلو صوته إعلاميا أمام كل ضربة وهابية، الطويل كان كثيرا ما يحدث بينه وعبد الوهاب جفاء فى العلاقة الإنسانية، ورغم ذلك أتذكر أننى سألته لماذا لم يلحن «أنت عمرى» بعد أن رشحته أم كلثوم نكاية فى عبد الوهاب الذى كان قد تقاعس عن استكمال اللحن، فقال لى كانت الجماهير تنتظر لقاء العملاقين، ولم أشأ أن أفسد هذه اللحظة على الملايين، سألته عن رأيه فى «انت عمرى» أجابنى من أروع أغانينا العربية، سألته هل أعلنت هذا الرأى وعبد الوهاب على قيد الحياة، أجابنى كنت على خصام معه ولم أشأ أن أبسطه.
مع بليغ كان الأمر شديد الالتباس، عبد الوهاب قال إن بليغ «رخص الغناء»، يقصد أنه جعله بلا قيمة جمالية، كان يرى أن بليغ حمدى هو أكثر موسيقار يأتى إليه الإلهام الموسيقى، ولكنه لا يجتهد كثيرا فى التعايش مع الجملة الموسيقية التى تمنحها له السماء، فهو يقدمها قبل أن تختمر إبداعيا فى أعماقه، وكان عبد الوهاب يستخدم تعبير «بعبلها».
لا شك أن عبد الوهاب كان يهتم دائما بمتابعة الأجيال التالية له، فهو يعلم أنه حتى يستمر على القمة عليه أن يهضم مفردات الجيل الجديد، ومن هنا مثلا من الممكن أن تجد تفسيرا لكلمة قالها كمال الطويل فى تحليله موسيقى محمد عبد الوهاب، فهو يصفه بالنشافة، يأخذ من كل ما يقدمه العصر وكل ملحنى الزمن الذى عايشه، تجد بأسلوب غير مباشر أن عبد الوهاب أخذ منهم لمحة ما.. لم يكن عبد الوهاب هو ابن الزمن الذى سبقه فقط، لكنه ابن الزمن الذى يعيشه، يتابع تلاميذه بنفس القدر من الاهتمام الذى كان يتابع به أيضا أساتذته وزملاءه!!
كان عبد الوهاب يرى أن الغزارة الموسيقية لبليغ حمدى سلاح ذو حدين، وكان معروفا أن بليغ هو أكثر ملحن عرفه العالم العربى لديه كل هذه الخصوبة فى الإبداع والأرقام فى جمعية المؤلفين والملحنين، تؤكد ذلك، لا ينافسه فى الحقيقة سوى الموجى، بليغ يحظى دائما بالمرتبة الأولى فى تحقيق أكبر أداء علنى وعلى مدى تجاوز 25 عاما، فإن ترتيب بليغ حمدى يأتى فى المقدمة.. ما الذى يعنيه هذا سوى أن موسيقى بليغ لا تزال تنبض بالحياة.. عبد الوهاب يأتى فى المركز الثانى، ويجب ملاحظة أن ما قدمه بليغ حمدى يتجاوز فى العدد خمسة أضعاف -على أقل تقدير- ما قدمه عبد الوهاب، رغم أن عبد الوهاب عاش بيننا 30 عاما أكثر من بليغ!!
عبد الوهاب شكَّل بالنسبة إلى كل الأجيال التى جاءت بعده علاقة تحمل تقدير، وفى نفس الوقت بها قدر لا ينكر من التوجس.. مثلا كان محمد الموجى وكمال الطويل وعبد الحليم حافظ قد تعاهدوا فى بداية المشوار أن لا يجعلوا عبد الوهاب يفرق بينهم، إلا أن عبد الوهاب منذ الخمسينيات استطاع أن يخترق هذا الحصار وبذكاء تمكن من أن يرتبط مع عبد الحليم بمشروع فنى اقتصادى وهو شركة «صوت الفن».
نعم عبد الوهاب كان يشعر بالغيرة من كل جديد موهوب يتابعه يتأمله يهضمه، كان يحيل الغيرة إلى طاقة إبداعية إيجابية، تمنحه البقاء فى تاريخنا الموسيقى معتليا القمة!!