طارق الشناوي يكتب: بليغ في عيون عبد الوهاب؟!
طارق الشناوي
سألتنى مذيعة «بى بى سى» عن مكانة بليغ حمدى الموسيقية، الذى مرت قبل أيام ذكراه التاسعة عشرة، وقالت لى هل سرق بليغ الأضواء من محمد عبد الوهاب؟
أجبت أن عبد الوهاب كان فى البداية شديد الحماس لموهبة بليغ، ولكن بعد ذلك قال إنه «رخص الغناء»، يقصد أنه أفقده قيمته الجمالية. الحقيقة أن الموسيقار محمد عبد الوهاب كان يرى أن بليغ هو أكثر ملحن يأتى إليه الإلهام، ولكنه لا يجتهد كثيرًا فى التعايش مع الجملة اللحنية التى تمنحها له السماء وكان عليه أن يتأملها ويستعيدها أكثر من مرة ثم يقدمها بعد أن تختمر إبداعيًّا فى أعماقه. لا شك أن عبد الوهاب كان يهتم دائمًا بمتابعة الأجيال التالية له، فهو يعلم أنه لكى يستمر على القمة فإن عليه أن يهضم مفردات الجيل الجديد، ومن هنا مثلاً قال عنه الموسيقار الكبير كمال الطويل إن عبد الوهاب مثل «النشافة» يأخذ من كل ما يقدمه العصر، وكل ملحنى الزمن الذى عايشه تجد بأسلوب غير مباشر أن عبد الوهاب قد تأثر بهم.. تستطيع أن تشم بين ثنايا ألحان عبد الوهاب شيئًا من موسيقاهم. لم يكن عبد الوهاب هو ابن الزمن الذى ولد فيه، لكنه ابن الزمن الذى يعيشه، يتابع تلاميذه حتى يستطيع الإمساك بنبض الأيام!
كان عبد الوهاب يرى أن الغزارة الموسيقية لبليغ حمدى سلاح ذو حدين، وكان معروفًا أن بليغ هو أكثر ملحن عرفته مصر والعالم العربى لديه كل هذه الخصوبة فى الإبداع، والأرقام فى جمعية المؤلفين والملحنين تؤكد ذلك، لا ينافسه فى هذا الشأن سوى محمد الموجى.. فهو يحظى دائمًا بالمرتبة الأولى فى تحقيق أكبر أداء علنى وعلى مدى تجاوز 20 عامًا.
ما الذى يعنيه هذا سوى أن موسيقى بليغ لا تزال تنبض بالحياة. عبد الوهاب يأتى فى المركز الثانى وتجب ملاحظة أن ما قدمه بليغ حمدى يتجاوز فى العدد ضعف -على أقل تقدير- ألحان عبد الوهاب رغم أن عبد الوهاب عاش مبدعًا أكثر من 70 عاما بينما بليغ 40 عامًا!
كانت مشاعر الأجيال التالية لعبد الوهاب تحمل مزيجا من الحب والتقدير وأحيانا التوجس.. مثلا محمد الموجى وكمال الطويل وعبد الحليم حافظ تعاهدوا على أن لا يجعلوا عبد الوهاب يفرق بينهم، إلا أن عبد الوهاب منذ الخمسينيات استطاع أن يقتنص عبد الحليم.. صحيح أن عبد الحليم كان يحرص على أن يغنى من تلحين رفيقى الطريق، ولكن عبد الوهاب بذكاء تمكن من أن يرتبط مع عبد الحليم بمشروع فنى اقتصادى وهو شركة «صوت الفن».
هل كان عبد الوهاب يشعر بقدر من الغيرة من الأجيال التى جاءت بعده؟! أتصور ذلك فهى غيرة مطلوبة تدفعه إلى مزيد من الإبداع. كانت الأجيال الجديدة بمثابة حافز يمنحه نبضًا جديدًا فهو يريد أن يظل فى المقدمة لا يسبقه الزمن، إنها أسلحة مشروعة بالطبع.. لا شك أن الموجى مثلا كان يغضب أحيانا من عبد الوهاب، لكنه فى نهاية الأمر كان يراه بمثابة الأب والأستاذ. الطويل كان يصل أحيانا فى علاقته بعبد الوهاب إلى حدود الخصومة الشخصية، إلا أنه ظل على حبه وإيمانه بإبداع عبد الوهاب.. بليغ حمدى أحب موسيقى عبد الوهاب كما أحب أيضا ابنته «إش إش» وأراد الزواج منها، ولكن عبد الوهاب هو الذى حال دون ذلك، فهو يرى أن بليغ كان بوهيميا فى ألحانه وسلوكه.
عندما تعرض بليغ لمحنة سميرة مليان المغربية التى انتحرت وألقت بنفسها عارية من منزله، واجه بليغ أقسى أنواع التهم وهى تسهيل الدعارة وحكم عليه بالسجن لمدة عام.. سافر إلى فرنسا وذلك قبل أن تُسقط محكمة النقض الحكم. كان اسم عبد الوهاب كثيرًا ما يتردد فى الكواليس باعتبار أنه لعب دورًا فى إدانة بليغ حمدى، ولم تكن لهذه الشائعات أى نصيب من الصحة!
لو سألتنى عن رأيى الشخصى أقول لك نعم عبد الوهاب كان يشعر بالغيرة من كل جديد موهوب يتابعه يتأمله يهضمه، وكان بليغ حمدى على رأس من يتابعهم ويهضمهم.
فهى بقدر ما تؤكد عظمة إبداع بليغ فهى تشير أيضا إلى قدرة عبد الوهاب على أن يظل الزمن الموسيقى يحمل اسمه حتى لو قدم بليغ ما هو أروع، إلا أن بليغ عاش إبداعيًّا فى عصر عبد الوهاب