لم أكن أعلم أن عبدالحليم حافظ يكره القطارات إلى هذه الدرجة.
كنا معزومين لزيارة حدائق قصر فرساى؛ هذا القصر الذى سألت فيه مارى أنطوانيت عن سبب مظاهرات الجوعى فقيل لها «إنهم يسألون عن الخبز، فتساءلت مندهشة: ولماذا لا يأكلون البسكويت»؟ قال عبدالحليم: لن أركب القطار أو المترو، سنركب أى سيارة من سيارات الذاهبين إلى هناك المستشار صلاح بسيونى أو المستشار هشام عامر أو السكرتير الثانى عماد البط. وإن لم يكن هناك من يرضى أن يقود سيارة يوم السبت؛ فى طرق خارج باريس المزدحمة كل سبت وأحد.
قلت لعبدالحليم: أنت تخاف من القطار وعبدالوهاب يخاف من الطائرات. هل لكل فنان شىء يخافه ويرهبه؟ وكأنى لمست جرحا داخليا عند عبدالحليم، ونحن ننتظر سيارة السفير جمال منصور الذى أمر بأن تصحبنا سيارته إلى حيث نريد. قال عبدالحليم: صفارة القطار تزعجنى جدا، إنها علامة الفراق. وأنا أكره صفارة القطار منذ وقفت على المحطة فى الزقازيق لأركب القطار وحدى إلى القاهرة، حيث يوجد أخى إسماعيل، وكان خالى قد قارب أن يشكو لطوب الأرض من شقاوتى، ولم يعرف أحد أن سر الشقاوة هو الرغبة فى الهرب من الدموع. نعم فلو جلست هادئا وأنا طفل لنزلت دموعى، لأنى كنت أكره أن يوجد لكل طفل أب وأم، وأنا بلا أب أو أم، طفل ثقيل على الخال والأخ والأخت. والحركة هى التى تنسينى أنى يتيم. والشقاوة هى التى تنسينى أنى موجود فى الملجأ. أنت لا تعلم كم هى قاسية حياة الملجأ. وأعتقد أن سر صداقتى مع عمر الشريف ينبع من أنه كان فى مدرسة داخلية هى كلية فكتوريا، وهى ملجأ «أولاد الناس اللى فوق». وكان مثلى كما قال لى «شقى جدا».
أقول ولكن ما ذنب القطار لتخاف منه؟ أنت طفل يتيم وتدرس فى الملجأ، ولا يوجد قطار بجانب الملجأ، فما الذى يخيف فى القطار؟
قال : أنت بذات نفسك قلت إنك لحظة أن نزلت إلى باريس من القطار وركبت التاكسى كنت خائفا؛ لأن مبانى باريس أعلى من مبانى القاهرة. وأنا أيضا حين ركبت القطار من الزقازيق إلى القاهرة كنت خائفا، فمن هو الذى يمكن أن يقول لمراهق ملامحه كملامح الطفل كيف يصل إلى السيدة زينب وحى بركة الفيل، وحارة سلامة حجازى وأن يسأل أهل الحارة عن منزل إسماعيل شبانة. كان القطار مليئا بعساكر الإنجليز النازلين من معسكرات القناة. وعيون الناس تنظر لهم وتتمنى أن تسرقهم. وكل منا يعلم أن العساكر الأفارقة يخيفون أى إنسان. كانت الشائعات تقول إن هؤلاء العساكر من بلاد «نم نم» وحتى هذه اللحظة لا أعلم أين هى بلاد «نم نم». وكنا نتصور أن هؤلاء الأفارقة لهم ذيول، رغم أننا لا نعرف أين تكون هذه الذيول بالضبط. وكانوا يعطوننا الشيكولاتة والبسكويت، عكس الإنجليز الذين كانوا يضربون أى طفل على قفاه. هل عرفت لماذا أكره القطار وأخاف منه؟
السفير صلاح بسيونى
كنت سعيدا بأن هناك إنسانا فى وزارة التعليم ينظر إلى الموسيقى باحترام، ولكن هناك شيئا ما جعلنى أتأخر وأنقطع عن التدريس لمدة ثلاثة شهور متصلة. وحين يقول لى أخى إسماعيل إننى يجب أن أحافظ على الوظيفة والمرتب كنت أقول حاضر وأنا غير مهتم حقيقة بالذهاب إلى تلك المدارس إلا فى أول الشهر لأقبض، ولاحظت فى سمنود أن الصراف الذى يعمل فى إحدى الدوائر الزراعية يرغب فى أن يعثر على عريس لابنته. وكأنه قد اختارنى كعريس. وبدأت زوجته التى تتفنن فى صناعة الأطعمة الدسمة تدعونى للغداء بجانب التدريس لابنة سعادة الصراف. وانتبهت إلى أن البنت كثيرة التدلل. وأحسست أن هناك فخا للزواج. وهربت من الفخ بسرعة وأرسل الصراف شكاوى مجهولة ضد المدرس الذى لا يذهب إلى المدارس. وكنت أنسى نفسى بالساعات فى معهد الموسيقى إلى أن استدعانى أحمد نجيب هاشم ليقول لى إنه لا يستطيع أن يتصرف فى القوانين وأننى مفصول من الوزارة لانقطاعى ثلاثة شهور وخرجت من مكتبه وإحساس بالحرية يملأنى؛ فلن أرى الصراف أو المأمور أو طبيب المدينة، أو ناظرة المدرسة التى تطلب أن أحفظ البنات الأناشيد. وجريت لمعهد الموسيقى لأغرق فى نفس الحكايات عن محمد عبدالوهاب وغرامياته المثيرة وعن السيدة التى تكبره فى السن، وحاولت أن تقتله بعد أن عرفت بخبر زواجه من إقبال نصار، وكيف أنه مغامر كبير وأن زوجته حاولت تقييده بسلاسل إنجاب الأطفال، ولكنه غير قابل للتقييد، وأنه يأكل الطعام بشراهة ويخاف من الزكام. ولم أفكر سوى أن فى جيبى جنيها ونصف الجنيه، وأننى حر تماما.
قالت زوجة أحد الدبلوماسيين لعلها السيدة صفاء حرم عماد البط والتى كانت تصحب زوجها أثناء زيارتنا لحدائق قصر فرساى: هل كانت بنت الصراف تشبه سعاد حسنى أم تشبه صباح؟ قال عبدالحليم ضاحكا: من المؤكد أنها كانت تشبه عبد السلام النابلسى.وضج الحاضرون بالضحك.