فى ذكرى حليم 39 مذكرات «حليم» بخط يده: الجميع حذروه من عبدالوهاب وقال له الموجي «سيأخذك منا»
أحمد مجاهداكسترا, فنون 18,مارس,2016
4
عبدالحليم وعبدالوهاب
في يناير عام 1973، بدأ عبدالحليم حافظ كتابة مذكراته، أثناء رحلته العلاجية في أكسفورد، حيث أخبره الأطباء بأنه يعيش الآن بـ10% من كبده، وصارحوه بأن هذه أخطر علامات المرض، لكنه ورغم كل ذلك كان يؤكد دائما: «لا أصدق الموت، أحس أني أخدعه دائمًا وأهرب منه»، حتى وافته المنيّ يوم 30 مارس عام 1977.
أوصى العندليب أصدقائه لويس جريس، ومنير عامر، بعدم نشر هذه المذكرات إلا بعد وفاته، دون أن يوضح أسباب رغبته في ذلك، لكنه أكد في مقدمتها أنه فكر كثيرًا قبل أن يبدأ في كتابة قصة حياته، حتى استقر الأمر في ذهنه مُقررًا في مقدمتها أن يختصر كل الإهداء في سطرين قصيرين، لشخص واحد اختاره من بين مئات مروّا في حياته، قال فيه: «إلى التي لم أرها في يوم من الأيام، لكني سآراها يومًا ما.. إلى أمي».
تحكي المذكرات كل ما مر في حياة العندليب، حب، وفاء، خيانة، صداقة، وعمل، وينقل من خلالها كل ما مر به، حادث سعيد أو مؤلم، مشيرًا إلى أنه يستغل لحظات الانتهاء من تأثير البنج ليستكمل سطورها التي سننقلها عنه على حلقات متتالية، بمناسبة ذكرى رحيله والتي توافق يوم 30 من هذا الشهر.
مر أول عام على ثورة 23 يوليو، وتبدأ بروفات أول احتفال بعيد الثورة، تلك التي سيشارك فيها حليم، في تجربة جديدة ومخيفة في نفس الوقت، حتى أنه وقف خلف كواليس مسرح «الأندلس»، وقال لنفسه: «سأغني على هذا المسرح»، وكانت مفاجأة عندما عرف أن الفرقة التي ستعزف خلفه مكونة من 60 عازفًا.
ليلة الاحتفال، شهدت حوارا بينه وبين يوسف وهبي، طلب فيه الثاني من حليم أن يفتتح الحفل، وهناك مطربون ونجوم كثيرون على القمة، فريد الأطرش، ليلى مراد، عبدالمطلب، محمد فوزي، سامية جمال، نعيمة عاكف، الكحلاوي، كارم محمود، عبدالعزيز محمود، اسماعيل يس، شكوكو، وجميع فناني مصر كانوا هناك، والكل يطلب أن يغني أو يرقص في وسط الاحتفال لا أن يبدأه، فالمعروف أن الناس تحب أن تسمع الغناء في الليل، وفي بداية أي احتفال يكون الجمهور غير مؤهل للسماع.
طلب حليم من يوسف وهبي أن يغني بعد نشرة الساعة الحادية عشرة، فتعجب وهبي، لكن العندليب أصر، وقال له: «لن أغني إذا لم أصعد على المسرح في الوقت الذي حددته أنا»، وعلى عكس المتوقع، فرح يوسف وهبي بأن فنانًا شابًا لا يقبل أن يقدم بأي صورة على المسرح.
قدمه وهبي في الميعاد بالفعل، وافتتح الستار عن مطرب شاب ببدلة شاركسين، وعود نحيل، ومن خلفه 60 عازفًا، وكانت هي أول مرة يقف فيها هذا العدد من الموسيقيين خلف مطرب، لينتهي عصر العدد البسيط من الآلات التي تردد أي لحن وأي موسيقى، وتصبح الموسيقى نوتة مكتوبة أمام كل عازف.
بدأ حليم مواجهة الجمهور بـ«صافيني مرة»، وكان يقود الفرقة، ليصبح أول مطرب يقود الفرقة التي خلفه، يسافر معهم إلى مكان الحب، يبحث عن الحنان، فيصفق الجمهور، ويولد من جديد.
في الصباح، ذهب إلى معهد الموسيقى، يستقبله أحدهم على الباب، يخبره أن عبدالوهاب طلبه بالتليفون، ويريد أن يراه، بينما ينصحه آخر بجملة مبهمة: «حاسب على نفسك»، لم يفهمها إلا بعد أن التقى بإحسان عبدالقدوس، الذي قال له: «إن عبدالوهاب له طريق، وأنتم لكم طريق.. عبدالوهاب سوف يستفيد منكم وسيأخذ أحلى ما في الجديد الذي تقدومنه، وسيقال بعدها أنكم تقلدونه».
تذكر «حليم» عبدالغني السيد ومحمد أمين، كلا حصر نفسه في دور التلميذ، وجلال حرب صوت من الاسكندرية، جاء إلى القاهرة ولمع فيها لكنه احترق، فقط لأن الوقوف أمام عبدالوهاب يحمل خطرا صغيرا وقاتلا في نفس الوقت، الخطر هو «إعجاب عبدالوهاب بكل شيء، فيضان الثناء والانبهار على لسانه لا يهدأ، والإعجاب يخلط بين الحسن والسيء، ويسقط الإنسان بعدها فيما لا يعرف»، هكذا فسر العندليب لنفسه خوف الجميع عليه من عبدالوهاب.
قال لنفسه: «قد أكون نقطة وقد يكون عبدالوهاب جبلاً، لكن لن أقلد الجبل ولن أضيع في ظله»، وفي صباح اليوم التالي توجه إلى مكتب عبدالوهاب في شارع توفيق، مكان بلا ضوء، شبابيك مغلقة، وضوء أباجورة، ووجه عبدالوهاب يقول: «مبروك».
طلب عبدالوهاب من حليم أن يغني له، وبدأ يغني، فسقطت دموع موسيقار الأجيال من تحت النظارة، فسأله: «لماذا تبكي يا أستاذ؟»، فرد بصوت متأثر: «لأول مرة أسمع فيها واحدا يغني أغنياتي من غير ما يقلدني، أنت شخصية غنائية جديدة»، ثم طلب منه أن يدور حول نفسه، وقال: «أنت شاب رقيق تصلح للسينما، غدا توقع العقد».
فرح العندليب بلقاء عبدالوهاب، لكنه في نفس الوقت يعرف أن عليه دراسة هذا الشخص عن قرب، ليعرف كيف ظل متربعًا على قمة الفن ثلاثين عامًا، بينما صوت محمد الموجي يحذره: «هذا الرجل سيأخذك منا»، فيجيب عليه: «سأكتب في العقد أنك أنت وكمال الطويل ستلحنون لي».
في الصباح، يعود حليم لمكتب عبدالوهاب، ويبدأ في توقيع عقدًا بـ200 جنيه، ومن شروطه أن تختار له شركة الاسطوانات كلمات الأغنية، فقال «لا»، وتم تعديل الشرط بأن يختار الكلمات بنفسه، كذلك رفض شرطًا بأن يلحن له عبدالوهاب كل أغنيات الأفلام، وتم تعديله ليضم محمد الموجي وكمال الطويل أيضًا.
قال كمال الطويل وهو يسمع حكاية العقد وما تم فيه: «عقود عبدالوهاب لا تنفذ»، وبالفعل عقود السينما التي وقعها معه لم تنفذ، وكلما سأله عن الميعاد، يجد ألف اعتذار، لكنه أنتج أغنية «على قد الشوق»، والتي رسخت اسم عبدالحليم حافظ في أذهان الجمهور، ووضعته أمام مسئولية أكبر اسمها «النجم الصاعد».
كان هدف حليم في تلك الفترة، أن يدرس عبدالوهاب، لأنه الذي مهد الطريق أمام الأذن في الشرق لتسمع الموسيقى الجديدة، وجاء من بعده من وسعوا دائرة الاستماع للموسيقى الجديدة، محمد فوزي، محمد أمين، جلال حرب، وعندما جاء كمال الطويل ومحمد الموجي كان شكل ومضمون الأغنية قد تغير.