فى ذكرى حليم 39 .مذكرات حليم بخط يده . فشل في اختبار الإذاعة وقال له جمهور أول حفل «انزل» متجدد
في يناير عام 1973، بدأ عبدالحليم حافظ كتابة مذكراته، أثناء رحلته العلاجية في أكسفورد، حيث أخبره الأطباء بأنه يعيش الآن بـ10% من كبده، وصارحوه بأن هذه أخطر علامات المرض، لكنه ورغم كل ذلك كان يؤكد دائما: «لا أصدق الموت، أحس أني أخدعه دائمًا وأهرب منه»، حتى وافته المنيّ يوم 30 مارس عام 1977.
أوصى العندليب أصدقائه لويس جريس، ومنير عامر، بعدم نشر هذه المذكرات إلا بعد وفاته، دون أن يوضح أسباب رغبته في ذلك، لكنه أكد في مقدمتها أنه فكر كثيرًا قبل أن يبدأ في كتابة قصة حياته، حتى استقر الأمر في ذهنه مُقررًا في مقدمتها أن يختصر كل الإهداء في سطرين قصيرين، لشخص واحد اختاره من بين مئات مروّا في حياته، قال فيه: «إلى التي لم أرها في يوم من الأيام، لكني سآراها يومًا ما.. إلى أمي».
تحكي المذكرات كل ما مر في حياة العندليب، حب، وفاء، خيانة، صداقة، وعمل، وينقل من خلالها كل ما مر به، حادث سعيد أو مؤلم، مشيرًا إلى أنه يستغل لحظات الانتهاء من تأثير البنج ليستكمل سطورها التي سننقلها عنه على حلقات متتالية، بمناسبة ذكرى رحيله والتي توافق يوم 30 من هذا الشهر.
خرج حليم من وزارة المعارف ومعه قرار الفصل من وظيفة مدرس موسيقى، ولم يفكر إلا في أنه حر، طليق، ثم راودته تساؤلات: «هل أكره هذا الرجل الذي تعامل معه بالقانون؟ هل ستكفي النقود التي في جيبه إلى آخر الشهر؟»، ثم وصل لإجابة تريح قلبه: «لا يهم، ولابد ألا يعرف أحد من أسرتي، لو عرفت (علية) ستغضب ولا أحب أن أغضبها، لابد أن أحصل على عمل من أي نوع».
دفعته الجملة الأخيرة للذهاب إلى كمال الطويل، صديقه الذي اعتاد أن يلجأ إليه ساعة القلق، فراح متجها إلى مبنى الإذاعة حيث يعمل كمال، وفور التقاه أخبره «أنا مدرس مفصول»، فضحك وقال: «هو ده الصح، التدريس لك وظيفة غلط، إيه رأيك في وظيفة بستين جنيه في الشهر؟».
قدم له الطويل عرضًا بأن يعمل في فرقة موسيقى الإذاعة عازفًا للأبوا، وكان كمال يعرف أن هناك حزنا خاصا في حياة حليم، فقد كان الأول في دراسة هذه الآلة وكان من المفترض أن يسافر إلى إيطاليا لبعثة، ولكن الوساطة في معظم الأحيان تسبق المجهود، فسافر واحد غيره.
نجح حليم في الالتحاق بالفرقة، وصار يعزف وراء كل المطربين والمطربات ما عدا أم كلثوم وعبدالوهاب، إلا أن كمال الطويل كان له رأيا آخر في صديقه: «أنت تملك صوتا شجيا، لابد أن تقتحم مجال الغناء»، ليفتح له باب الطريق الذي يبدو مغلقًا، فيذهبا معًا لبعض الملحنين ويحاولان إقناعهم بأن يقدموا بعض ألحانهم للعندليب، لكن جميعهم رفضوا إلا علي إسماعيل، أمهر عازف على الكلارنيت والساكسفون.
لم يتوقف دور كمال الطويل عند هذا الحد، بل قدم طلبا للإذاعة ليدخل حليم اختباراتها ويُعتمد كمطرب، وبالفعل وقف العندليب أمام أول لجنة استماع يرأسها المرحوم مصطفى رضا، وبدأ يغني أغاني أم كلثوم وعبدالوهاب، فأوقفته اللجنة اعتراضا على طريقة أدائه، وقال أحدهم عنه «خواجة»، ورفضوا صوته.
«خرجت من امتحان لجنة الاستماع وأنا أحس أنني سأصل إلى الناس أخيرًا، لابد أن يحدث ذلك»، يحادث حليم نفسه، ثم يلتفت ليلمح رئيس اللجنة يمشي في الشارع، وكادت عربة تصدمه فشده إلى الرصيف، وقبل أن يشكره ضحك وقال: «لكن ده إحنا لسه قايلين على صوتك لا!»، فرد عليه حليم ضاحكًا: «ما أنا جريت ألحق سيادتك، أحسن –لا قدر الله- الغناء يتطور».
تقدم بعدها حليم مرة أخرى إلى لجنة الاستماع، لكن هذه المرة كان أعضاؤها أم كلثوم، عبدالوهاب، رياض السنباطي، محمد القصبجي، وحافظ عبدالوهاب، وما أن بدأ في الغناء حتى لاحظ عبدالوهاب متشيًا ويردد «الله»، وأم كلثوم مبتسمة، وقال له القصبجي: «مبروك»، وتحمس له حافظ عبدالوهاب، وشجعه على اتخاذ خطوة بتقديم أغنية في الإذاعة على الفور، وهو الأمر الذي دفع حليم لتغيير اسمه من عبدالحليم شبانة، إلى عبدالحليم حافظ، عرفانًا بجميل هذا الرجل في حياته وتشجيعه.
كانت أول أغنية يقدمها العندليب في الإذاعة المصرية من كلمات صديقه الشاعر صلاح عبدالصبور، وألحان صديقه أيضًا كمال الطويل، مع ذلك لم يتوقف عن المشاركة في فرقة موسيقى الإذاعة كعازف إبوا، فكان عازفًا ومطربًا في نفس الوقت، إلا أنه لم يكف أبدا عن الانشغال بالبحث عن أغنية جديدة تناسبه ليقدمها كمطرب.
كانت «صافيني مرة» هي تلك الأغنية، وكان هذا لقائه الأول بمحمد الموجي، المهندس الزراعي الذي استقال من أربعين فدانًا أعطتها له الحكومة، وقال هناك غيطان خضراء هي الموسيقى، وأصبح ملحنًا شجيًا.
ذات ليلة، جاء للعندليب شخص يدعى «المعلم صديق» متعهد حفلات في الإسكندرية، وقال له أنه يقيم حفلات كبيرة في المسرح القومي بالأسكندرية، وأنه يرغب في تقديمه على هذا المسرح بشرط أنه يغني أغاني عبدالوهاب القديمة، لكن حليم قال له بمنتهى الوضوح: «سأغني أغنياتي الخاصة بي»، فسأله: «من تلحين من؟»، فرد: «كمال الطويل ومحمد الموجي»، فوافق على أمل أن يقنعه فيما بعد بغناء أغنيات عبدالوهاب.
سافر حليم مع الطويل والموجي، وصعد على المسرح، وبدأ يغني أغنياته، لكن الجمهور لم يعجبه، وصاح في القاعة: «انزل، إيه الغنا ده!»، مع ذلك استمر لمدة عشرة أيام في تكرار نفس الفعلة رافضا أن يخضع لاقتراحات المتعهد بأن يغني أغنيات أي مطرب آخر، حتى قرر في النهاية أن يرد العربون إلى المتعهد ويعتذر.
كان العربون خمسة جنيهات، هي كل ما يملكه حليم، وبالتالي أصبح عليه أن يبحث عن وسيلة للعودة إلى القاهرة، لأنه مفلسًا تمام الإفلاس، فهمس في أذن تحية كاريوكا التي كانت موجودة بالمسرح: «معاكي خمسة جنيه سلف؟»، واصفًا إياها بـ«أخت لكل الفنانين، وحضن دافيء بالحنان، لا تستطيع أن ترفض طلبات لصديق أو ناشيء»، وبالفعل أعطته إياها ولم تكتف، بل تشاجرت مع «المعلم صديق» وتركته اعتراضًا على ما فعله مع حليم.