مذكرات «حليم» بخط يده: لولا عمر الشريف لما عرض «أبي فوق الشجرة» في موعده (ح 6)
أحمد مجاهداكسترا 22,مارس,2016
5
حليم وعمر الشريف
بعد اكتشاف حليم لمرضه، أصبح السرير أحد أهم العارفين بحال العندليب، وبطلاً أساسيا في قصة حياته لما يقضيه عليه من وقت طويل، وأوقات راحه بالأيام وربما بالشهور إذا وصل المرض إلى أعلى مستوياته، لذلك لم يكن سريرا عاديًا، كان مجهزًا خصيصًا ليتناسب مع حالة حليم، مصنوع بطريقة صممها الأطباء، مائل، منخفض جدًا من عند الأقدام، ومرتفع جدًا عند الرأس، والسر في ذلك أن الأطباء يرفضون أن تتجمع أحماض المعدة في منطقة الشعيرات الدموية التي تسبب النزيف، لأن الأحماض تأكل جدران هذه الشعيرات فيحدث النزيف.
يكره «حليم» النوم، لكنه مضطرًا، لا فقط أن ينام كالعاديين، لكنه تقريبًا كان يقضي على سريره ما يعادل نصف عمره، ولم يستمتع بسنوات النجاح كما ينبغي، لم يعش منطلقا غير محاصر بالقيود، عكس أيامه الأولى في الفن، كان يعيش بحرية، يأكل بحرية، ينام بحرية.
في أيام مرضه الأولى، يتجمع حولة ألف صديق، لا يراهم بحكم أوامر الأطباء، فقط يرى الزهور التي يزدحم بها المنزل، ومع مرور الوقت والأيام يتناقص عدد الأصدقاء حتى أنهم أحيانا لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، وقتها تزداد المرارة في نفس حليم، لأنه لم يعتاد الحياة بدون أصدقاء.
وبما أننا ذكرنا الأصدقاء، وجب أن نشير إليهم كما حكى عنهم العندليب، لعل أبرزهم محمد الموجي، الذي فاجئ العندليب يوما بخبر زواجه من مغنية في كبارية، وقتها حزن حليم لأنه اختار لنفسه واحدة لا تليق به، وغضب منه، وقال له لابد أن تطلقها وأن تعود إلى بيتك وأولادك، وبالفعل طلقها الموجي.
2626qfa
يومًا ما، قرر الموجي الانسحاب من حياة حليم الفنية، عندما لحن له عبدالوهاب أغنية «توبة»، وكان تبريره لذلك أنه ذات مرة سجل لحنا، وفوجيء بأن عبدالوهاب جاءه نفس الخاطر الموسيقى، فتعجب الموجي من أمر موسيقار الأجيال وذهب إليه وقال: «ده اللحن ده أنا قلته!»، فرد الثاني بهدوء أعصاب: «غريبة مسألة توارد الخواطر الموسيقية دي، نادر ما بتحصل»، وهنا صمت الموجي وأصبح لا يمسك العود أبدا أمام عبدالوهاب.
لم يغضب وقتها حليم من الموجي، لأن ما بينهما ذكريات تبدأ من العود الذي كانا يغطياه معًا بالبالطو ليسيرا في الشارع من معهد الموسيقى إلى بيت العندليب في المنيل، ويسقط المطر فيخافا على العود ويضعاه بينهما ويسيران، وبعد أن يصل حليم لبيته يعود الموجي إلى العباسية سيرا على الأقدام.
بينه وبين حليم ذكريات الجلوس في شادر البطيخ الذي يملكه مرسي جميل عزيز، في الزقازيق، وتلحين الأغاني، خاصة أغنيات «يا أبو قلب خالي»، و«رسالة من تحت الماء» التي استغرق الموجي في تلحينها أربع سنوات متواصلة، رغم شهرته بأنه «أسرع من يلحن»، إلا أنه في هذه الأغنية تحديدًا كان يلحن مقطعًا منها ويسمعها حليم ويحفظه، ويعود ليحفظ مقطعًا آخر، وينسى.
يقول العندليب: «محمد الموجي هو عواطف ساخنة ودافئة، تعلن عن نفسها بطيبة وتماسك وحب، دائمًا يحكي عن حلمه القديم، عندما رأى في المنام أنه يركب على حصان أبيض يطير فوق السحاب وينتقل من مكان إلى مكان، وكان في يده عود من خشب الأبنوس.. فنان يعرف جيدا قيمة الموسيقى وحدود كل ملحن، ويعرف اختيار الجملة التي تعيش، ويقول عني ضاحكًا: أنني أعرف كيف اختار (اللازمة الموسيقية) التي تربط مقطعًا من الأغنية بالمطقع الآخر، وهو لا يعلم أنني استخرج هذه اللازمة من لحن الأغنية التي يلحنها لي».
في قطار الصداقة أيضًا هناك عمر الشريف، الذي يلتقي به العندليب كلما سافر إلى أوروبا، والذي يطير من أي مكان في العالم ليلتقي حليم ويتحدث معه، فمنذ أن جمعهما فيلم «أيامنا الحلوة» وصداقتهما قوية، تلك العلاقة التي يفسرها صاحب المذكرات، قائلا: «أحدًا لا يعرف أن عمر الشريف هو أكثر الفنانين صمتًا، ويقول لي: أنا أدخر لك كل مشاكلي لأسألك فيها، ونظل طوال ليال لا نمل الكلام فيها، ويحكي، يحكي.. إن العالم الذي يحياه عمر الشريف يشعره دائمًا بالوحدة، ويظل بحاجة دائمًا إلى صديق، ولقد كنت دائمًا هذا الصديق الذي يحكي له عمر».
T681dFg7
يتذكر حليم موقفًا مع عمر الشريف، عندما لم يستطع تسديد مبلغ ألفي جنيه استرليني لشركة تحميض الأفلام التي كانت تحمض فيلم «أبي فوق الشجرة»، وقتها علم عُمر الشريف بالأمر، فطار إليه وسدد المبلغ، وقال له غاضبًا: «ليه مقولتليش؟!»، ويتذكر أيضًا لقائهما بالممثل العالمي سير لورانس أوليفييه، في لندن. هذا الرجل الذي لعب معظم مسرحيات شكسبير، وصفقت له ملايين الأيدي، ترك في نفس حليم علامة كبيرة رغم لقائهما القصير، عندما قال له: «أعتقد أن مهمة الفن لم تعد هي إمتاع الإنسان فقط، ولكنها إنقاذ له من عالم التفكير في النقود، من وضعه كسلعة تباع تشترى».
كان من بين أصدقاء حليم أيضًا السفير جمال منصور، سفيرنا في قبرص آنذاك، والذي وصفه العندليب بالعقل الواعي والهاديء، المليء بحب مصر، الذي يعمل بدأب شديد، ويرى الدبلوماسية على أنها فهم وثقافة وإجادة لغات، ويرى أن مرتبه من حق بلده، فيصرف كل ما معه على عمله ولا يدخر شيئًا، كذلك دكتور محسن عبدالخالق سقير مصر في اليابان آنذاك.
لم ينس حليم الحديث عن طبيبه العزيز، دكتور ياسين عبدالغفار، واصفًا إياه بالمتصوف، والعالم المكتشف المتواضع الذي يرد أجر الكشف لمن يرى أنه غير قادر على دفع «الفيزيتة»، والذي عندما تولى علاج العندليب قال له: «أنت موهبة، وأنا لا أعالج المواهب بنقود»، كما أنه يثور بعنف إذا خرج حليم عن قواعد العلاج التي يرسمها، ولا يتواني عن السفر إلى الخارج ليعقد «كونسلتو» مع الأطباء العالميين.، وهو من أختار له الدكتور هشام عيسى، ليكون ساهرا على تنفيذ خطة علاج العندليب بالتعاون مع كبار أطباء لندن وباريس.