مجلة العربي المصرية
التاريخ: الثلاثاء 30 نوفمبر 1999
http://www.al-araby.com/docs/1072/article130708.html
هشام عيسى يتذكر:
"حليم" ورفاقه
خلال حرب أكتوبر كنت مسئولا عن إمداد الجيش بالدم.
ووقع أحد زملائى الأطباء فى أسر القوات الإسرائيلية.
وبعد عودته سألني: هل تعرف الكاتب محمود عوض؟.
قلت له نعم .
لماذا تسأل عنه؟.
فقال لي: إن الإسرائيليين قد وجهوا إلى عدة أسئلة خلال الأسر.
وكان آخرها سؤالا يقول: هل يوزعون عليكم كتب محمود عوض من باب التوجيه المعنوى للقوات المسلحة؟.
ساعتها أحسست بالفخر لأننى صديق لهذا الرجل.
الذى لفتت كتاباته أنظار العدو الإسرائيلي.
وأعدوها من أسباب التغيير الذى حدث فى الحرب.
معظم الناجحين فى مجالاتهم يتبنون بما يشبه الإجماع قاعدة تقول إن الفصل بين الصداقة والعمل هو أهم شروط النجاح.
وقد خالف "حليم" هذا الشرط بنجاح ساحق.
فكان "حليم" يصادق كل من يرتبط معه فى العمل سواء أكان إداريا أو شاعرا أو موسيقارا أو مخرجا أو ممثلا أو طبيبا أو صحفيا أو مؤلفا.
ولكنه لم يكن يبدأ بالصداقة ثم يكلف أصدقاءه بالعمل معه.
كان الأمر على العكس من ذلك.
فـ "حليم" كان لديه قدرة خارقة على اصطياد الموهبة فى وقت مبكر.
قبل أن يلمحها غيره ولم يكن ذلك مقصورا على المواهب الغنائية فقط.
بل كان يتعداها إلى كل مجال.
ثم يرتبط بالصداقة بعد ذلك مع تلك الموهبة.
وأذكر على سبيل المثال أن "حليم" قد لمح النجمة المعروفة الآن "يسرا" مرة واحدة فى حياته.
وكان ذلك فى مبنى التليفزيون.
وكانت بصحبة أحد العاملين فى المجال السينمائي.
وعرف "حليم" أنه كان ينوى تقديمها للتمثيل.
وكان "حليم" فى ذلك الوقت يقوم بعمل مونتاج لإحدى أغانيه.
وفى نهاية السهرة قال لى هذه الفتاة الصغيرة لفتت نظرى بشدة.
وسوف يكون لها شأن.
ولم تره "يسرا" بعد ذلك.
كما أن القدر لم يمهل "حليم" ليراها نجمة كبيرة.
وقد رويت هذه القصة لـ "يسرا" بعد رحيله بوقت طويل.
ولم يندم "حليم" أبدا على صداقته مع هذا العدد الهائل ممن عملوا معه.
وقد تميزت تلك العلاقة بأمر آخر وهى أن معظم الرفاق قد ارتبطوا فيما بينهم بروابط وثيقة من الصداقة امتدت بعد رحيل "حليم" نفسه.
وبالنسبة لى شخصيا فقط ظلت علاقتى بالأحياء منهم تمثل لى حتى اليوم أغلى الكنوز التى خلفتها لى تلك الأيام.
ودامت علاقتى حتى اليوم بالأعزاء: وجدى الحكيم ومحمد حمزة ومحمود عوض ومنير عامر وعصام بصيلة وحلمى بكر وفؤاد معوض وماهر العطار وصلاح عرام وسمير صبرى وفاروق إبراهيم.
وحرمنى رحيل كوكبة أخرى من صداقة كنت أتذوق رحيقها مع بليغ حمدى وكمال الطويل وعبدالوهاب محمد وأحمد الحفناوى وكثير من أعضاء الفرقة الموسيقية الذين عملوا معه.
وقد رأيت وأنا ألملم أوراقى استعدادا للانتهاء من قصة "حليم" أن انتقى بعضا من هؤلاء النوابع لأتحدث عن بعض ما عرفته عنهم.
تقابل "حليم" مع وجدى الحكيم للمرة الأولى فى ستوديو مصر.
وكان "وجدي" يشغل منصب مسئول الإنتاج الفنى فى صوت العرب.
كان عبدالوهاب يسجل فى الاستوديو أغنيتين هما "دعاء الشرق" للشاعر محمود حسن إسماعيل و"الروابى الخضر" التى كتبها أحمد خميس.
وحضر معه "حليم".
فلفت نظره "وجدي" بحيويته ودقته فى العمل.
وتعارفا ثم بدأ "حليم" يتردد عليه فى دار الإذاعة بـ "الشريفين" (وهى مقر الإذاعة فى ذلك الحين) وكانت القيادة قد عينت الضابط عبدالمنعم السباعى مسئولا عن الإذاعة.
وكان صاحب موهبة فى الشعر الغنائي.
فكتب أغنية تقول:"لايق عليك الخال/ ياللى الهوى خالك/ مشغول عليك البال/ ولا حد على بالك".
قام الموجى بتلحين الأغنية فدفعها "عبدالمنعم" إلى "وجدي" متمنيا أن يغنيها "حليم".
تحمس "حليم" و"وجدي" للأغنية.
وحاول الأخير أن يذيعها عن طريق صوت العرب.
ولكن المسئولين عن الإذاعة رفضوا بحجة أنها أغنية عاطفية وصوت العرب لا ينتج إلا الأغانى الوطنية.
ولكن "وجدي" لم ييأس وظل يلح على أمين حماد مدير الإذاعة.
وطلب إليه أن يستمع إلى الأغنية فوافق أخيرا بشرط أن يتنازل المؤلف والملحن عن أجرهما.
فوافق كلاهما وانضم إليهما "حليم".
وكان عبدالمنعم السباعى محرجا أن يطلب إذاعة الأغنية.
ولكن "وجدي" تولى الأمر كله.
فأذيعت وحققت نجاحا كبيرا.
منذ ذلك الحين توطت صداقة "حليم" و"وجدي" وامتدت إلى أسرة "وجدي" كلها لتشمل والدته وأخواته الثلاث نادى ومنى وعنايات.
وكذلك أخويه البطل الراحل اللواء شريف وجلال.
وأخذ "حليم" يتردد على منزل الأسرة فى منشية البكرى ليضع رأسه على صدر أم "وجدي" باحثا فيه عن حنان الأمومة الذى افتقده فى طفولته.
كان "حليم" دائما يحلم بدفء الأسرة وصدر الأم.
وحين كانت تزوره خالته (والدة شحاتة) كان يقضى الساعات فى أحضانها.
وكأنه يتذكر أيام كانت تحمله بين يديها وتطوف به على المرضعات فى قرية الحلوات.
ليرضع من لبنهن بعد أن فقد أمه يوم مولده.
وقد دامت صداقة "حليم" و"وجدي" حتى نهاية العمر.
ولم يطلب منه "حليم" فى أى وقت من الأوقات أى امتياز خاص فى إذاعة أغانيه.
وكانت الإذاعة دائما هى أهم أدوات الانتشار للمطرب.
وكان معظم المطربين والمطربات فى ذلك الوقت يتسابقون فى طلب إذاعة أغانيهم.
ولكن "حليم" لم يكن يحتاج إلى ذلك.
كما أن "وجدي" لم يضطر لمجاملته فى أى يوم من الأيام.
ولقد كان الشاعر المعروف عبدالرحمن الأبنودى صديقا لكل من "حليم" و"وجدي".
ولم يقدم "الأبنودي" ـ عاشق الفولكلور الذى قضى بعد ذلك معظم حياته وهو يجمع سيرة بنى هلال ـ لـ "حليم" كثيرا من الأغاني.
ولكنه قدم إليه بعضا من أجملها.
وكان "حليم" دائما يستمع إلى أغنية "الهوى هوايا" ويقول إنها كلماتها تحمل داخلها موسيقاها.
كما قدم لـ "حليم" أغنية "أحضان الحبايب" ولها قصة طريفة حدثت فى سهرة جمعت بين "حليم" و"الموجي" و"الأبنودي" و"عبدالوهاب محمد" و"مرسى جميل عزيز" و"وجدى الحكيم".
وكان معهم الأمير "عبدالمجيد بن عبدالعزيز" أمير مكة الراحل وخلال السهرة أخذ "الأبنودي" يداعب زميليه فى الشعر عبدالوهاب محمد ومرسى جميل عزيز.
قائلا: إن ما يكتبانه من أغان عاطفية يندرج تحت اسم كيمياء العواطف المعقدة.
فانبرى "حليم" قائلا: طيب يا عم ورينا أغنية عاطفية من غير كيمياء.
وعلى الفور بدأ "الأبنودي" يقول:"مشيت على الأشواك/ وجيت لأحبابك/ لا عرفوا إيه وداك/ ولا عرفوا إيه جابك/ رميت نفسك فى حضن/ سقاك الحضن حزن/ حتى فى أحضان الحبايب شوك يا..
حنفي".
قال حنفى بدلا من قلبي.
فالموضوع كله فى نظره هو لمحة ساخرة.
ولكن "حليم" اعترض قائلا له: لماذا تسخر من هذا الشعر الجميل؟!.
من فضلك اكمل الأغنية.
وعزز الأمير عبدالمجيد هذا الطلب قائلا لـ "الأبنودي": لو اكملت الأغنية فسوف أعطيك عباءتي.
وكان على كتفه عباءة جميلة أعجب بها الحاضرون جميعا.
فقام "الأبنودي" إلى غرفة مجاورة وأكمل الأغنية الجميلة حتى نهايتها.
وفى الوقت نفسه كان "الموجي" قد أكمل تلحين المذهب.
وبعد ذلك لحن الأغنية بأكملها.
ورغم أن "حليم" قد غنى لمعظم كبار شعراء الأغنية فى ذلك الوقت مثل مرسى جميل عزيز ومأمون الشناوى وعبدالوهاب محمد.
وقبل ذلك غنى لـ "أنور عبدالله وسمير محبوب وفتحى قورة وعبدالفتاح مصطفى ومجدى نجيب".
فإن أكثرهم حظا معه وأقربهم إلى قلبه وذوقه.
كان الشاعر الموهوب محمد حمزة الذى قدم إليه 37 أغنية، منها 8 أغان طويلة.
أولها "سواح" وآخرها "نبتدى منين الحكاية".
كما كتب له "حمزة" الأغانى التى غناها فى مسلسل "قاهر الظلام" ومسلسل "ارجوك لا تفهمنى بسرعة".
كان محمد حمزة يعمل محررا صحفيا فى مجلة "روزاليوسف" ليمدها بالأخبار الصغيرة.
ويقول محمد حمزة ساخرا كنت أحضر 10 أخبار يرمون منها 9 وينشرون خبرا واحدا.
وبدأ "محمد" يكتب الأغانى فكتب ثلاث أغان لـ "فايزة أحمد" أولاها تقول:"تأمر يا قمر أمرك ماشي/ لو حتى عيونى ما تغلاشي".
ثم كتب لـ "محمد رشدي": "عطشان يا صبايا/ دلونى على الطريق".
ولحنها ملحن من الإسكندرية هو محمد غنيم.
وذهب "حمزة" معه ومع محمد رشدى لحضور بروفات الأغنية فى معهد الموسيقي.
وكان "بليغ" ينتظر ليجرى بروفات أغنية لحنها لـ "نجاة" وهى "أسهر وانشغل أنا".
وبعد أن انتهت أغنية "حمزة" بادره "بليغ" قائلا وهو يجلس معه فى بوفيه المعهد: ماذا تفعلون بالفولكلور الذى أحلم طوال حياتى بأن أسهم فى تطويره.
أنتم تفسدونه بمثل هذه الأغانى وبهت "حمزة" من كلام الملحن الكبير.
ولكن "بليغ" أراد أن يجامله ويعوضه عن خشونة النقد فقال له على العموم الكلام اللى كتبته مش بطال.
ووجد أمام "حمزة" ورقة كتب فيها مطلع أغنية كتبها تقول:"سواح وماشى فى البلاد سواح/ والخطوة بينى وبين حبيبى براح".
وطوى "حمزة" الورقة ليضعها فى جيبه.
ولكن "بليغ" قال له أريد أن اقرأها.
ثم انتزع من جيبه ورقة قديمة ونقل فيها المقطع ثم مضي.
عاد "حمزة" إلى منزله وحوالى الساعة التاسعة ليلا صعد إليه البواب ليقول له إن شخصا صغير الحجم حضر بسيارة صغيرة ذات مقعدين ويريد أن يراك ويقول إن اسمه "بليغ".
نزل "حمزة" بسرعة فقال له "بليغ": اكمل ارتداء ملابسك وتعال معي.
وبعد قليل وجد "حمزة" نفسه فى منزل "حليم" بـ "الزمالك".
واقبل عليه "حليم" قائلا: أهلا بالشاعر الجميل.
ذهل "حمزة" الذى لم يكن معروفا فى هذا الوقت.
وارتفعت معنوياته خاصة حين قال له "حليم": لقد قرأت مطلع كلامك فهل تستطيع أن تكمله قبل خمسة عشر يوما.
أريد أن أغنيها فى الحفلة القادمة.
لم يصدق "حمزة" ما يسمع.
لقد بدأ هذه الأغنية وهو يرجو أن يغنيها أى مطرب شعبى شهير مثل محمد رشدي.
فإذا بـ "حليم" يعدها لحفلته.
فقال حمزة هل أحاول أن أبدأ الآن.
وافق "حليم" وطلب من الطباخ أن يعد له العشاء.
وتركه فى الغرفة المجاورة وبها مكتب "حليم".
وظل "حمزة" يعمل حتى أكمل الأغنية فى الساعة السادسة صباحا.
وبعد ذلك قال لى "حمزة" لقد انتهزت الفرصة التى تورط فيها "حليم" وخشيت لو انصرفت أن يهمس له أولاد الحلال قائلين: مين حمزة ده.
وكيف تطلب منه أغنية من شاعر ناشئ وعندك: مأمون وعبدالوهاب محمد وحسين السيد ومرسى جميل عزيز.
كان "بليغ" قد لحن المذهب وبدأ يلحن باقى الأغنية.
وأصر "حليم" على أن تكتب النوتة فى اليوم نفسه.
وبدأ البروفات فى اليوم التالي.
وكان ذلك هو بداية التعاون بينهما الذى امتد حتى نهاية حياته.
وكان "حليم" يردد دائما أنا أحب الأبيات التى غناها وأقربها إلى وصف حياته هى ما كتبه "حمزة" فى "قاهر الظلام":"يا مركبى سيرى فى طريقك ولا تخافى الرياح/ لو فيه ظلام فى الوجود قلبى أنا ملاح".
أحب "حليم" الكاتب الصحفى الساخر فؤاد معوض الملقب بفرفور الذى لفت نظره ببساطته وعفويته وخفة ظله وتعليقاته اللاذعة.
وقد تعرف عليه حين كان يعمل فى مجلة "صباح الخير" وأجرى حوارا معه نشر بالكامل وأعجب "حليم" به.
وبدأت الصداقة فكان "فرفور" أحد الرفاق الذين لا تخلو منهم معظم سهراته المنزلية.
حتى إنه غنى فى فرحه.
وكان دائما يرعاه.
وقد وقع "فرفور" يوما فى حب مطربة كانت معروفة فى ذلك الوقت.
وذهب ليخطبها من أبيها الذى رفضه.
فتدخل "حليم" لإقناع الأب ولكنه أصر على موقفه قائلا: أنا لو أزوج ابنتى لكاتب فسوف يكون فى حجم مصطفى أمين أو التابعى أو بهاء.
فرد "حليم" سوف أصحب "فؤاد" غدا إلى السجل المدنى واطلب تغيير اسمه ليصبح أنيس منصور.
وبذلك نحصل على موافقتك على الزواج.
وكان "حليم" يقدر الكاتب الصحفى محمود عوض ويضعه فى مكانة خاصة منذ أن عرفه.
والحق أن "حليم" قد تمنى أن يكون كتاب "محمود" الثالث عن أقطاب الفن كتابا عنه شخصيا.
فقد كتب "محمود" عن "عبدالوهاب" و"أم كلثوم" من قبل.
ولكن "حليم" لم يفصح عن رغبته فى بادئ الأمر بصراحة.
وطالت العلاقة دون أن يبدو فى الأفق أن "محمود" سوف يكتب كتابا عن "حليم".
فسأله "حليم" هل ترى أننى لا استحق أن يكون كتابك الثالث عني.
فرد "محمود" بسرعة انت تستحق أربعة كتب لا كتابا واحدا.
وليس هناك خطأ فى ذلك.
المسألة تتعلق بى شخصيا فقد كتبت هذه الكتب بناء على تكليف من دار "أخبار اليوم".
واختيار "عبدالوهاب" و"أم كلثوم" لي.
ولكننى دخلت الصحافة لأكون أديبا.
ولم تكن هناك مجلات متخصصة فى الأدب.
ولا أريد أن أحبس نفسى فى هذا النمط.
وكان فريد الأطرش قد أرسل لـ "محمود" شيكا على بياض يطلب منه نفس الطلب.
وقابله "محمود" بنفس الرفض.
اقتنع "حليم" ولم يغضب من "محمود" الذى تحول بعد النكسة إلى الكتابة السياسية.
وكان مدخله إليها فريدا من نوعه.
فقد أراد كباقى المثقفين الذين وجهت إليهم هزيمة 1967 ضربة ساحقة.
أراد أن يبحث عن السبب فيما جري.
وكتب أول كتبه فى هذا المجال وهو ممنوع من التداول.
الذى يلقى ضوءا على الكيفية التى تفكر بها إسرائيل.
وقد لاقت كتاباته فور نشرها فى "آخر ساعة" إقبالا منقطع النظير.
ثم أجيز نشر الكتاب بعد أن أقرته لجنة خاصة اجتمعت لدراسته فى وزارة الدفاع.
وخلال حرب أكتوبر كنت مسئولا عن إمداد الجيش بالدم.
ووقع أحد زملائى الأطباء فى أسر القوات الإسرائيلية.
وبعد عودته سألني: هل تعرف الكاتب محمود عوض؟.
قلت له نعم لماذا تسأل عنه؟.
فقال لي: إن الإسرائيليين قد وجهوا إلى عدة أسئلة خلال الأسر.
وكان آخرها سؤالا يقول: هل يوزعون عليكم كتب محمود عوض من باب التوجيه المعنوى للقوات المسلحة؟.
ساعتها أحسست بالفخر لأننى صديق لهذا الرجل.
الذى لفتت كتاباته أنظار العدو الإسرائيلي.
وأعدوها من أسباب التغيير الذى حدث فى الحرب.
أما صداقة "حليم" للكاتب الصحفى المثقف منير عامر.
فهى إحدى علاقاته التى غلب فيها عنصر الثقة والاحترام على سواها من العناصر.
والحق أن سلوك "منير" نفسه يبعث فيمن يعرفه شعورا بالألفة والاطمئنان.
كما أنه كان يعتز بنفسه.
وينأى بها عن كل ما يمكن أن يشوب عمله من طلب للمنفعة أو استغلال للموقف.
وقد اختاره "حليم" دون باقى أصدقائه من الكتاب الصحفيين لكتابة مذكراته الشخصية.
ولم أر فى حياتى أى كاتب آخر يخلو إلى "حليم" فى غرفة نومه وفى يده القلم ويكتب ما يقوله "حليم".
وكانت له بعد ذلك رؤية خاصة فى صياغة ما يكتب.
ولم يعترض "حليم" على هذه الطريقة أبدا.
وبعد أن انتهى من كتابه عرض عليه مبلغا كبيرا من المال.
فرفض "منير" تماما.
وقال لـ "حليم": لقد اعطتنى صباح الخير مكافأة عشرة آلاف جنيه وتذكرة سفر وإقامة فى أى مكان اختاره فى العالم.
وذلك بعد أن ارتفع توزيع المجلة عدة أضعاف بسبب نشر المذكرات.
هناك العديد من الرفاق لا يتسع المجال للكتابة عنهم.
فهم يحتاجون إلى عدد من الصفحات تتجاوز كل ما كتب.
هناك عصام بصيلة الكاتب الصحفى القدير والصديق الدائم لـ "حليم".
الذى كان يحضر بعد الانتهاء من عمله ليسهر معه حتى مطلع الصباح.
ثم نقوم معه بالطواف سيرا على الأقدام حول حديقة الأسماك وحليم يرتدى جلبابه.
وكانت هذه أحب الرياضات المحببة إلى "حليم".
يمارسها حين يسود الهدوء ويصفو الجو تماما.
ولم يناقش عصام مع "حليم" أى عمل صحفي.
كما أن "حليم" لم يطلب منه ذلك أبدا.
وكان ماهر العطار صديقا خفيف الظل طيب القلب خاليا من كل عيوب النفاق أو الحسد.
وأعتقد أنه أحب مطربى عصره إلى قلب العندليب.
طال الحديث عن الرفاق ومازال هناك الكثير منهم.
ولكننى رأيت أن أتوقف أخيرا عند واحد من أهم أصدقاء "حليم" وأكثرهم تأثيرا على فنه.
وهو الراحل بليغ حمدي.
وقد تعرف عليه "حليم" سنة 1959 حين استمع إلى ليلى مراد تجرى بروفات فى معهد الموسيقى على لحن له.
وهو "تخونوه" استمع إليه بالمصادفة فاستولى اللحن على كيانه وتمنى لو غناه.
وكان معه بعض الأصدقاء من الموسيقيين.
ومنهم الموسيقار صلاح عرام فذهبوا إلى ليلى مراد يطلبون منها أن تتنازل عن اللحن لـ ""حليم"".
فوافقت عن طيب خاطر.
وغنى "حليم" اللحن فى أحد أفلامه وهو "الوسادة الخالية".
ومنذ ذلك اليوم بدأ "حليم" و"بليغ" مشوار صداقة وزمالة استمرت حتى قبيل وفاة "حليم".
وقدم لـ "حليم" بضعا من أروع أغانيه.
جمع "بليغ" صفات يندر أن تجتمع فى شخص واحد.
أبدع كثيرا وتكلم قليلا.
ولم يكن ينام إلا ساعات قليلة.
ولا ينقطع عن التدخين ولا يأكل إلا نادرا وطوال حياتى لم أره وهو يتناول غذاء كاملا.
كان كريما بلا حدود يعشق المال ويكرهه فى آن واحد.
فحين يحصل عليه يتخلص منه بأية وسيلة.
وقيل عنه إنه لا يتوافق مع مدير أعماله إذا كان أمينا.
ولكنه يحتفظ به إذا كان يسرقه.
ولم يحافظ كثيرا على مواعيده.
وأحب كثيرا وكانت له حكايات عجيبة فى هذا المجال.
فهو القادر على أن يتزوج واحدة أعجب بها فى المساء ثم يتفق معها على الطلاق فى اليوم التالي.
أو يذهب ليخطب فتاة أحبها.
فيطلب شقيقتها.
وكان أحب الأصدقاء إليه هم البسطاء الذين يعتمدون عليه.
والشعراء الموهوبون.
وقد كرس "بليغ" معظم حياته لفنه.
وكان يحلم بالمسرح الغنائى وتطوير الفولكلور.
رأيت "بليغ" مرة واحدة قبل وفاته.
كانت ابنة شقيقتى قد دعته للعشاء فى منزل الأسرة.
وقتها لم يكن "بليغ" يدخن أو يشرب أى شيء.
كما ظل كعادته لا يأكل إلا النذر اليسير.
أدركت ساعتها أن "بليغ" قد بدأ رحلة السأم من الحياة.
ولد "بليغ" فى القاهرة سنة 1932 وتوفى فى يناير سنة 1994 متأثراً بسرطان الكبد.
ولم يترك بعد مماته عقارا أو أموالا.
واقتصرت تركته على مئات من الألحان الرائعة تقاسمها من بعده عشرات من كبار الملحنين الصغار