عبدالحليم حافظ..الحنجرة والتيار والمدرسة
جريدة المدى
في اواخر الاربعينيات، كان المعهد الموسيقي في القاهرة يضم بين عشرات من الطلاب، خمسة من الاصدقاء، لاندري اذا كان احد من اساتذتهم قد تنبه منذ ذلك الوقت الى انهم يتميزون عن بقية رفاقهم بمواهب خاصة، وحتى لو كان بين الاساتذة من تنبه الى تلك المواهب الخاصة،
في ذلك الوقت فقد كان الرفاق الخمسة بالنسبة للجمهور مغمورين، مجهولين لايسمع بهم احد خارج دائرة عائلاتهم ومعارفهم المباشرين ، هؤلاء الخمسة هم: عبدالحليم شبانة، محمد الموجي، كمال الطويل، احمد فؤاد حسن وعلي اسماعيل.
في ذلك الوقت كانت الخريطة التقريبية للحياة الموسيقية والغنائية العربية تبدو كما يلي: كان قد مر ما يقارب من ثلاثة عقود على العاصفة الهائلة التي فتح بها سيد درويش كل ابواب التجديد امام الموسيقى والغناء العربيين، وزانجلى غبار هذه العاصفة عن اربعة مكلحنين عمالقة هم: محمد عبدالوهاب، محمد القصبجي، زكريا احمد ورياض السنباطي، واحد من هؤلاء صمد امام العاصفة (زكريا احمد) وعاد يواصل في صمود وثقة خط القرن التاسع عشر كما وصل الى القرن العشرين مع محمد عثمان وداود حسني، والثاني (رياض السنباطي) افتتن في البداية بغواية التجدد، متأثرا بسيد درويش اولا ثم بالقصبجي بشكل خاص، ولكنه عاد فاستقر على الخط الكلاسيكي، يقول فيه بنبرة معاصرة – والثالث (محمد القصبجي) الذي ولد في السنة نفسها التي ولد فيها سيد درويش، اندفع حتى النهاية مع دواعي التجديد واغراءاته، ولكن تجديده بقي محصورا بشكل اساسي بحنجرة واحدة (ام كلثوم)، لم يتجاوزها الاّ قليلا الى حنجرتي ليلى مراد واسمهان، اما الرابع محمد عبدالوهاب، فقد وضع قدميه، منذ (في الليل لما خلي)، على طريق الغواية الكاملة بمغريات التجديد ودوافعه التي لايروى لها ظمأ، ساعده في ذلك حنجرة عبقرية كانت اعظم آلة عزف عليها ووضع لها الالحان.
وبعد ان كان عقدا الثلاثينيات والاربعينيات، فترة التفتح الكامل والعطاء الغزير للعباقرة الاربعة فقد ارتبط القصبجي وزكريا احمد والسنباطي بحنجرة ام كلثوم العظيمة، بينما انطلق عبدالوهاب مع حنجرته وعوده، يندفع وراء مغريات التجديد بوتيرة بالغة السرعة، فنجح في الاربعينيات بالذات في التربع على عرش التيار الرئيسي للاغنية العربية الحديثة، بعد ان نمت الى جانبه تيارات فرعية مثلها محمود الشريف ومحمد فوزي وفريد الاطرش، واصوات مثل محمد عبدالمطلب وعبدالغني السيد وكارم محمود.
ومع ان محمد عبدالوهاب قد واصل العطاء والتجديد في التيار الذي تزعمه –ومازال- فالحياة الثقافية لاتعرف الجمود، وتطالب دائما بالجديد، وقبل عبدالحليم حافظ والموجي والطويل، ظهرت ثلاث اشارات بشرت بولادة جديد، ولكن البشارات الثلاث كانت كاذبة لانها تجسدت بثلاث حناجر لاميزة لها الا الشبه بحنجرة عبدالوهاب ولاقدرة لها الا في محاولة تقليد عبدالوهاب، وقد عاشت هذه الحناجر حياتها الفنية اللامعة القصيرة، اما على الحان مباشرة من محمد عبدالوهاب او على محاولات فاشلة لتقليده في التلحين كما في الغناء.
ويبدو ان بذرة التجديد والابتكار كانت قوية في نفس عبدالحليم واصدقائه، على الرغم من ترعرعهم في مدرسة عبدالوهاب، التي ظلوا متأثرين بها، فبذرة التجديد هذه هي التي دفعت عبدالحليم شبانة (الذي غير اسمه من شبانة الى حافظ عرفانا بجميل حافظ عبدالوهاب، الاذاعي الذي فتح له ابواب الاذاعة) حتى عندما كان هاويا الى تحمل الصعاب لفرض شخصيته الفنية، اي لطرحج وجهة نظره الشخصية بالغناء فمع ان المطرب الناشئ غنى (جبل التوباد) امام عبدالوهاب، وقبله امام لجنة الاستماع في الاذاعة، فقد شهد عبدالوهاب نفسه ان اهم ما اعجبه هو ان الفني الجديد ادى (جبل التوباد) على طريقته الخاصة ومن البداية كان عبدالحليم قد حمل الحان الموجي الجديدة وصمم على ان يخطو بها خطواته الاولى في الحفلات العامة، وكلفه ذلك في البداية صداما عنيفا مع متعهدي الحفلات، الذين كانوا يفضلون لضمان الرواج التجاري لحفلاتهم، ان يقدم المغني الجديد أغاني عبدالوهاب المعروفة.
وهكذا، منذ البداية، لم يكن عبدالحليم حافظ مجرد صوت جديد يضاف الى الاصوات الاخرى، ولم يكن الموجي والطويل مجرد ملحنين يملكان بعض الانغام الجديدة، ولم يكن علي اسماعيل مجرد موزع موسيقي مجتهد، ولا احمد فؤاد حسن مجرد عازف قانون بارع، بل كانوا جميعا، وخاصة الثلاثة الاوائل، اصحاب وجهة نظر جديدة، صحيح انها ابنة شرعية للتيار الرئيسي في الاغنية العربية الحديثة التي يتزعمه عبدالوهاب، ولكنها صاحبة نكهة خاصة في هذا التيار، واذا كانت الرحلة الطويلة الغزيرة الانتاج بين صافيني مرة وقارئة الفنجان هي الدليل الرئيسي على ذلك، فهناك ادلة فرعية كثيرة اخرى اهمها:
-ان محمد عبدالوهاب، زعيم التيار الجديد، قد اعترف بالمدرسة الجديدة داخل هذا التيار، وكان لاعترافه هذا عدة اساليب في التعبير، منها انه بكر كثيرا في تبني حنجرة عبدالحليم حافظ، وظل ملازما لها من البداية الى النهاية، ومنها ان كثيرا من الحان عبدالوهاب لعبد الحليم قد لفحتها نكهة مدرسة عبدالحليم، الموجي، الطويل..
-ان عددا كبيرا من المغنين قد ظهروا بعد عبدالحليم حافظ: عبداللطيف التلباني، كمال حسني، محرم فؤاد، هاني شاكر، عماد عبدالحليم، بعضهم ظهر في حياته، وبعضهم بعد موته، ولكن احدا منهم لم يستطع ان يشكل منافسا او بديلا لعبدالحليم، على رغم بعض الشبه في الخامة الصوتية بين بعضهم وعبدالحليم، وهكذا، يتضح ان ليس لهذا الفشل اي سبب سوى ان احدا من اصحاب هذه الحناجر لايحمل وجهة نظر جديدة او حتى نكهة جديدة في الغناء، وان اقصى احلامهم هي ان يشعر الناس انهم شبيهون بعبد الحليم حافظ او يذكرون الناس به على الاقل، اي ان حافز الشهرة هو الذي يدفعهم وليس اي حافز فني حقيقي..
عبدالحليم حافظ: الحنجرة
قبل انخراطه في فريق عمل واحد مع الموجي والطويل، كان عبدالحليم حافظ الذي ولج الى دنيا الموسيقى بصفته عازفا لآلة الاوبرا قد احتك باحدى تجارب التجديد الموسيقي التي قادها الموسيقي عبدالحميد توفيق زكي في اواخر الاربعينيات.
وكانت مدرسة عبدالحميد توفيق زكي تتميز وتعتمد على خطين اساسيين:
-التأثر بالموسيقى الاوروبية الكلاسيكية الى حد اعتبارها المثل الاعلى الذي يجب السير على منواله، تأليفا وتوزيعا وعزفا.
-الشعور الحاد بأن الموسيقى والغناء عمل ثقافي بالغ الرقي، يجب البحث عن رهبان له في الاوساط الثقافية.
وعملا بهذين الخطين، فقد عمد عبدالحميد توفيق زكي الى انشاء فرقة من العازفين والعازفات والمغنين والمغنيات، كان يصطاد افرادها من المعاهد الموسيقية او الجامعات، وكان من نجوم هذه الفرقة كارم محمود وفايدة كامل وهدى سلطان في مجال الغناء، وعبدالحليم حافظ كعازف اوبوا، ولعل من اشهر انتاج هذه الفرقة التي اطلق عليها اسم (فرقة الاوتار الذهبية) اغنية هدى سلطان الشهيرة (ياورد الجناين ياسيد الورود) الرائعة، التي بقيت للاسف الشديد اسيرة اذاعة القاهرة، وحتى هذه الاذاعة امتنعت منذ زمن طويل عن اذاعتها، في هذه الاغنية يقوم عبدالحليم حافظ بعزف منفرد على الاوبوا بين المقطعين الثاني والثالث.
من آلة الاوبوا هذه، وهي آلة نفخ خشبية حنونة الصوت، متواصلة الذبذبات لينة الانعطافات الصوتية، اكتسبت حنجرة عبدالحليم حافظ كل طابعها واسلوبها في الاداء.
بل ان صوت عبدالحليم انطبع بعمق بهذه الالة لدرجة انه اصبح مثلها يصل الى الذروة في ادائه عندما يكون اللحن خاليا من ارباع الصوت (اي عندما يكون على مقامات مثل النهوند والعجم والحجاز، كذلك طبع هذا التأثر حنجرة عبدالحليم بالضعف في قفلات الطرب وفي التحكم بالتنقل بين المقامات الشرقية فكان عبدالحليم يتجنب فنون التلوين المقامي والقفلات التي برع فيها مغنون من امثال عبدالمطلب وكارم محمود ووديع الصافي، فكان عبدالحليم قويا في تأدية اللحن، ضعيفا في التصرف، تأتي جميع تصرفاته وارتجالاته حادة تكشف ضعفا واضحا في تملك حنجرته من المقامات الشرقية بالذات، الا ان الوجه الاخر لهذه السلبيات كان نكهة عصرية مميزة، وحنانا عميق الحزن، ورقة وليونة اخاذة الجمال، خاصة في الالحان التي تناسب طبيعة حنجرة عبدالحليم، ولعل هذا ماكان يعنيه عبدالوهاب، عندما كان يردد في لحظات خصامه مع عبدالحليم، انه مغن وليس مطربا، ولعل هذا ماكان يدفع عبدالحليم الى نوبات من الاعتراف بنقاط الضعف هذه بأسلوب مباشر وصريح عندما يستمع الى وديع الصافي في سهرة مغلقة، وبأسلوب غير مباشر عندما يخوض المنافسة الحادة المكشوفة مع فريد الاطرش، الذي كان برغم سيئات ادائه وحنجرته، اعمق جذورا من عبدالحليم في المقامات العربية وفنون الغناء العربي واساليبه، وقد عبر عبدالحليم حافظ عن موقفه من الغناء العربي الكلاسيكي في اغنية (ياسيدي امرك) التي يحاول ان يبرهن فيها قدرته على اداء نماذج من هذا الغناء، ولكنه في الوقت نفسه يسخر من هذه النماذج ويعتبرها موضة قديمة عفى عليها الزمن، كذلك فمن التعبيرا الواضحة عن هذا الواقع، ان عبدالحليم كان يجيد العزف على الاوبوا، وعلى البيانو، بينما كان ضعيفا جدا في العزف على آلة العود، فاذا اراد ان يعزف عليها كآلة مصاحبة خلال غنائه في سهرة مغلقة، كان لايعرف دوزنة الاوتار بنفسه، بل يعهد بذلك الى اي من الساهرين القادرين على ذلك.
على هذه الارضية ظل اداء عبدالحليم حافظ يتأرجح بين الجودة (بل والامتياز احيانا) وبين التردي (بل والنشاء احيانا): كلما التزم بحدود مساحة جنجرته وبتربيتها الموسيقية ودقة الاداء للحن، ارتفع مستوى ادائه، ويتضح ذلك تماما في مرحلة الخمسينيات التي غنى فيها للموجي (صافيني مرة، وظالم، وبتقولي بكرة، ويا مواعدني بكرة) وللطويل (على قد الشوق، ولا تلمني، وصدفة، وبيني وبينك ايه، وسمراء) ولعبد الوهاب (توبة وعشنانك يا قمر وشغلوني)، وكلما خرج عن حدود مسافة صوته وعن حدود ثقافته الموسيقية وحاول الابحار عميقا في بحور التصرف والارتجال وقوة التعبير، هبط مستوى ادائه، خاصة عندما يقترب من حدود المقامات العربية الاصيلة، وذلك واضح تماما في النصف الثاني من حياته الفنية، وخاصة في محاولته تجديد بعض اغنياته القديمة، ولعل مرض البلهارسيا المزمن الذي اكل كبده وصحته كان ايضا ذا اثر سيئ على قوة ادائه، خاصة في السنوات الاخيرة.
عبدالحليم حافظ: التيار
منذ البداية كان عبدالحليم حافظ، كما قلنا، تعبيرا عن تيار في الموسيقى والغناء، وليس ظاهرة فردية من هنا كان انتاجه الفني مطبوعا، في الغالب وف يمعظم الفترات، بطابع العمل الجماعي، حتى ان فترته الاولى التي اقتصرت على الحان الموجي والطويل، كان يشهد ولادة جماعية للحن بين الفنانين الثلاثة، وحتى ان عبدالحليم (الذي دخل المعهد الموسيقي اصلا لدراسة التأليف الموسيقي والعزف، بينما دخله كمال الطويل لدراسة الغناء)!! كان يتدخل لاقتراح تعديلات في اللحن، مثلما فعل بالنسبة للحن المقطع الثاني من (على قد الشوق) الذي مطلعه (صابر وعمري ايامه تجري) من الحان الطويل، ولم يكن العمل الجماعي مقتصرا على التلحين فقط، بل على اختيار الكلام، والتوزيع الموسيقي وحتى العزف.
فبالنسبة لكلام الاغاني، مع ان عبدالحليم قد غنى لمؤلفين مخضرمين امثال مأمون الشناوي وحسين السيد ومرسي جميل عزيز، فقد ارتبط اسمه بشكل اساسي بمؤلفين جدد كان يجد في شعرهم الكلام الجديد الذي يبحث عنه، ويعبر عما يجول في خاطره من شكل جديد للاغنية وللتعبير الغنائي، فارتبط للفترة الاولى بمؤلف جديد اسمه سمير محبوب (كاتب صافيني مرة)، ومحمد علي احمد (كاتب على قد الشوق)، كما ارتبط اسمه في المرحلة المتوسطة باسم صلاح جاهين وعبدالرحمن الابنودي (وخاصة الاول) اللذين ليسا من كتاب الاغاني المحترفين، ولكنهما دخلا عالم الاغنية من باب الشعر، وفي المرحلة الاخيرة كانت معظم اغنيات عبدالحليم من تأليف محمد حمزة.
اما بالنسبة للتوزيع الموسيقي، فقد ارتبط اسم عبدالحليم (والموجي والطويل) لفترة طويلة باسم الموسيقي والموزع الممتاز علي اسماعيل (زميل الدراسة في المعهد الموسيقي) وقد بلغ من جماعية العمل بما يخدم الشخصية المميزة لمدرسة عبدالحليم حافظ، ان نسخة (لاتكذبي) التي غناها عبدالحليم من الحان عبدالوهاب، تحمل توزيعا يختلف عن السنخة التي غنتها نجاة من الاغنية نفسها، بل اكثر من ذلك بحمل تدخلا مباشرا من عبدالحليم في اللحن نفسه، فقد سمح له عبدالوهاب ان يبدي وجهة نظره باضافة قفلة للاغنية تكمل القفلة التي وضعها عبدالوهاب في اللحن الاصلي، ومع ان الاضافة جاءت استعراضية ضعيفة، الاّ انها كانت تعبيرا واضحا عن اسلوب عبدالحليم الذي كان يقدم الاغنية تعبيرا عن عمل فريق متكامل، يلعب هو فيه بعقله وحسه دورا بارزا.
وكان مثل هذا الاسلوب بحاجة الى مجموعة متجاوبة من العازفين، ولم تكن هذه المجموعة سوى الفرقة الماسية بقيادة احمد فؤاد حسن (زميل الدراسة في المعهد ايضا)، والذي يراقب خط تطور اغنيات عبدالحليم من (صافيني مرة) الى (قارئة الفنجان) يستطيع ان يقرأ قصة تطور العزف في الموسيقى العربية المعاصرة، حيث وصلت الفرقة الماسية، مطعمة بعازفين من اوركسترا القاهرة السمفونية (خاصة في الحان عبدالوهاب الكبيرة) الى مستوى من العزف بالغ التطور والجودة، وكان ذلك يبدو اوضح ما يكون في تطور عزف مجموعة الكمنجات (في لحني "نبتدي منين الحكاية" وفاتت جنبنا لعبدالوهاب، ولحن قارئة الفنجان للموجي)..
لقد كان اسلوب العمل الجماعي هذا حقيقة، لدرجة ان بالامكان القول من غير مبالغة ان تطور عبدالحليم حافظ في الغناء كان يعني في الوقت نفسه، تطور كلمات الاغنية العربية من خلال اسماء جديدة، وتطور النكهة الحديثة، في لحن الاغنية العربية، وتطور التوزيع في الاغنية العربية، وتطور عزف واداء الاغنية العربية.
عبدالحليم حافظ: المدرسة
لعل هذا المسح الشامل لمدرسة عبدالحليم حافظ يكفي لاظهار حجم الفراغ الذي تركه عبدالحليم حافظ، ولاظهار المواصفات الكاملة المطلوب توفرها في كل من يتصدى لملء هذا الفراغ، وهي المواصفات التي لايتوفر الحد الادنى منها في اي من الذين سارعوا الى ترشيح انفسهم لملء هذا الفراغ بعد رحيله.
غير ان هذا التحليل لايمكن ان ينتهي من غير الاشارة الى اثر سلبي تركه غناء عبدالحليم حافظ على كل من دخل مدرسته الغنائية من محترفين وهواة، وهو شبيه بالاثر السلبي الذي تركته مدرسة فيروز الغنائية في كل من دخلها من محترفات وهاويات.. فمع ان اسلوب غناء عبدالحليم مكون من عنصرين متكاملين: المعرفة بالمقامات العربية، والتأثر بالموسيقى والغناء الاوروبيين (مقامات واساليب ونكهة خاصة)، فان هذه التوليفة التي ظهرت في غناء عبدالحليم ضعفا في اداء المقامات الشرقية، قد تفاقمت عند مقلديه الى حد الهزال الكامل، بل الجهل شبه الكامل بالتعاطي الغنائي السليم والخلاق مع المقامات الشرقية، وهذا واضح في كل المحترفين الذين يقلدون عبدالحليم، خاصة هاني شاكر وعماد عبدالحليم، ولو استمر الحال على هذا المنوال، فان الجيل الثالث من ابناء هذه المدرسة (اذا استمرت) سيأتي بعيدا كل البعد عن الينابيع الكلاسيكية للغناء والموسيقى العربيين، ولكن هذه مشكلة اخرى، حرام ان نحمل مسؤوليتها الكاملة لعبد الحليم حافظ. فلو ان كل مغنِ جديد بذل من الجهد والتفاني في العمل ما بذله عبدالحليم حافظ، لكان الغناء العربي احسن حالا، من غير شك.
هذه المقالة بقلم الناقد الموسيقي المعروف الياس سحاب وقد نشت في مجلة افاق عربية اذار 1982