الليل مملّ وطويل، فمن سيبدد وحشة الأيام المقبلة؟
سؤال لم يستطع بليغ الإفلات منه وهو يستقبل الليلة الأولى من ليالي الغربة الاضطرارية، كانت ليلة مجهدة دارت في ذهنه مجمل التفاصيل بما يشبه شريطاً سينمائياً.
«آه كم أحتاجكِ الآن، كم أفتقدكِ بشدة، ففي محنة أقلّ حدة من هذه كنتِ إلى جواري تضغطين بحنان على كتفي، فعلى كتف من سألقي بحملي الآن؟»
تنهّد بليغ عندما تذكّر «ماما عايشة»، والدته حُبه الأول والأهم، كانت دوماً إلى جواره تسانده، تشدّ من أزره، يتخلّص بين ذراعيها من مجمل أحزانه و...
فكيف سأستعيد حياتي وتوازني؟ كيف سأتجاوز آلام الغربة أو بالأحرى التواؤم معها؟ أيهما أكثر مرارة: الاغتراب في الوطن أم في البلاد البعيدة؟}
المؤكد أنه لا يمكن لأحد التكهّن بمرارة الغربة أو الاغتراب عن البشر أو الحدود إلا من عاشها، وبليغ أحد الذين اكتووا بنارها.
في الحلقة السابقة توقفنا عند لحظة الرحيل التي اضطر إليها قهراً لا اختياراً، اجتهدنا في الاقتراب من ملامح شخصيته وكيف تركت آثارها على شخصيته الفنية، اكتشفنا أن كلا منهما كان متمرداً، تلقائياً، فوضوياً ولكنه مميز، فكيف نجح في التمرد على السائد والمتداول ليصيغ أبجديته الخاصة والمميزة في آن؟ من صاحب «القول الفصل» في صياغة موهبته وتشكيل وجدانه إنسانياً وموسيقياً؟
المؤكد أن الموسيقى كانت قدره و{همه» أيضاً. يقول بليغ: «جيت الدنيا علشان ألحن... علشان فيه رسالة أؤديها، قدرت؟ الله أعلم، أترك ذلك للتاريخ». لا نجامل إذا وصفناه بالأسطورة، فهو بحق «أسطورة التلحين التي أنجبتها مصر»، حتى إن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب قال عنه في حواره مع وجدى الحكيم: «ألحان بليغ تأتي في أيام ونحن ننتهي من أعمالنا في أشهر»، في حوار آخر قال: «بليغ ده محظوظ لأن ربنا بينعم عليه بجمل غنائية عبقرية قلما ينعم بها على فنان كل 50 سنة».
تابع عبد الوهاب الثناء عليه، قائلا: «عندما اختلي بنفسي أجدني أدندن له «زي الهوى يا حبيبي»، فهو لحن لا يعمله إلا فنان عبقري، لكن بليغ للأسف مش حاسس بقيمة العبقرية اللي عنده وهي دي مشكلته».
ما ذكره عبد الوهاب أكده المتخصصون ليس لأن ألحان بليغ ما زالت تعيش في ذاكرتنا، لكن لأنه نجح في إحداث الكثير من التطويرات في الموسيقى، من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، مزجه بين إيقاعات مختلفة، ليبتكر منها إيقاعات جديدة ستظل أكثر ما يميزه عن غيره، فمثلا في مقدمة أغنية «حاول تفتكرني» لحليم استخدم إيقاعاً مغربياً للمرة الأولى في وقت كان يمكنه الاستعاضة عنه بآخر مألوف جماهيرياً، كذلك لم يجد حرجاً في إدخال «المزمار الصعيدي» في أقوى وأطول مقدمات الأغاني التي قدمها لحليم أو لأم كلثوم وغيرهما، كذلك يظلّ له السبق في إقناع كوكب الشرق بإدخال مقاطع طويلة من أداء الكورال وذلك في أغنيتها «حكم علينا الهوى»، كذلك استعاض بهذه الأصوات (الكورال) عن آلات الإيقاع في لحن «بودعك» الذي غنته وردة.
مرة أخرى ما هي الظروف التي تشكلت فيها هذه الموهبة «الأسطورة»؟
حالاقاتك... برجالاتك
انشا الله تعيش انشا الله تعيش..
تكبر تبقي في وسط اخواتك
جن مصور زيه مفيش
هل صدفة أن يولد بليغ قبل أشهر من عودة دستور 23 الذي ناضل الشعب المصري طويلاً لإصداره قبل أن تلغيه سلطات الاحتلال الإنكليزي عام 1930 ليعود مجدداً في أبريل 1932؟ هل كانت مصر على موعد مع تغيير سياسي وموسيقي على السواء؟ هل أدّت نسمات التغيير والنضال للأفضل دوراً في تشكيل وجدان هذا الطفل الذي ولد في السابع من أكتوبر عام 1932 في شارع التوفيقية في حي روض الفرج، أحد أحياء شمال القاهرة (حي شعبي كان قديماً مركزاً للمسارح أوالتياتروهات كما كان يطلق عليها، ومنه خرج الكثير من الفنانين والمطربين والمطربات القدامى)؟ أم لأن مناخ الثورة الذي تفتّح وعيه من خلاله منح موهبته الفرصة للتحليق، ما يفسر لماذا شهدت هذه الفترة أسماء في مجالات الإبداع الفني المختلفة مثل أحمد بهاء الدين، صلاح حافظ، فتحي غانم، يوسف إدريس، صلاح جاهين، فؤاد حداد، شادي عبد السلام، جمال السجيني، محمود رضا، كمال الطويل، محمد الموجي، عبد الحليم حافظ...
مرة أخرى هل هي الصدفة أن يولد بليغ في البيت وفي التوقيت نفسه الذي شهد ولادة العبقري صلاح جاهين حتى أنهما عاشا معاً السنوات الثلاث الأولى من عمريهما، الغريب أن هذه الصلة التي بدأت منذ الصغر، إضافة إلى ارتباطهما بصديق مشترك هو عندليب الغناء عبد الحليم حافظ ومجموعة من كواكب هذا العصر، لم يترجما يوماً بتعاون مثمر، جمعت أغنيتان بينهما فحسب «كده رضا، ورضا كده» لعفاف راضي، و{تني وراكي» دويتو بين عفاف ومحرم فؤاد في المسلسل الإذاعي «عفوا ممنوع الانتقام».
هل يرجع ذلك إلى الصلة القوية التي جمعت الأبنودي ببليغ وأثمرت روائع ما زالت محفورة في ذاكرتنا سواء على المستوى الوطني أو الشعبي؟ أم تراها «الكيمياء» التي لم تتوافق، ليبقى ما كان يجمعهما من عادات صغيرة وخصومات طفولية عالقاً في الذاكرة كلما داعبهما الحنين؟ الطريف أن جاهين عندما سئل عن السبب قال ممازحاً: «شكلي ضربته وأنا صغير وهو لسه شايل في نفسه مني»، أما بليغ فقال: «أشعار جاهين لا تحتاج إلى تلحين لأنّها ملحنة جاهزة».
مجدداً هل هي الصدفة أن يلتحق بليغ بمدرسة التوفيقية الثانوية لتربطه صداقة بيوسف عوف الكاتب المبدع، الفنان محمد عوض، الموسيقار صلاح عرّام، الكاتب والمنتج المسرحي سمير خفاجي، تلك الشلة التي تكوّنت منها فرقة «ساعة لقلبك» والتي حققت شهرة كبيرة وخرّجت أسماء فنية ناجحة؟
المؤكد أن بليغ نشأ في بيئة تدفعه دفعاً إلى الفن، عشق الموسيقى منذ صغره، كما أكد شقيقه الأكبر د. مرسي سعد الدين، وكان ينصت باهتمام إلى شقيقاته أثناء تلقيهن دروس العزف على البيانو والعود ولم يتجاوز عمره حينها الخامسة، ما أتاح له إجادة العزف في هذه السن المبكرة، فضلا عن ترداده الأغاني الفلكلورية التي تعرّف إليها للمرّة الأولى عن طريق الخدم في منزله الوالدي، للعجب كان يحفظها بسرعة، ما يفسّر سرّ تعلقه بالفلكلور المصري وبحثه الدائم في أصوله، فضلا عن كونه مشروعه حياته الأخير.
كان تجميع الفلكلور العربي من جميع البلدان أحد أحلامه التي عرقلتها سنوات الغربة «اللاإرادية» عن الوطن، بدأ بالفعل تجميع الفلكلور الخليجي والمغربي، لكن للأسف لم يمهله القدر ولا الظروف لإتمام هذا الحلم أو المشروع القومي كما كان يؤكد دوماً، تماماً مثل أحلامه الأخرى المبتورة كإنشاء فرقة موسيقية عربية بما تحمل هذه الكلمة من معنى (أي يكون أعضاؤها من كل البلدان العربية) أو إنشاء مسرح غنائي ضخم يعضد ما قدمه من إسهامات في هذا المجال.
بريلا....بريلا....بريليلا
ضحكة أمه وفرحة أبوه
كان ترتيب بليغ الرابع بين أخوته، الأكبر هو د. مرسي سعد الدين الذي تقلّد مناصب قيادية في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات من بينها المتحدث باسم رئاسة الجمهورية ورئيس الهيئة العامة للاستعلامات، ثم صفية التي لحقت ببليغ بعد 40 يوماً من وفاته، تليها أسماء ثم بليغ وأخيرا حسام الذي كان يعمل ضابطاً وتوفي صغيرا وتولى بليغ رعاية أبنائه.
على أوتار البيانو والعود تشكّل وجدان بليغ لذا كان طبيعياً أن تكون الإجابة «مزيكاتي» لكل من يسأله السؤال المعتاد: ماذا تتمنى أن تكون؟ ولدت الموسيقى أو «المزيكا» معه كما كان يردد دوماً. يقول بليغ عن بداية علاقته بالموسيقى : {لا أعرف متى تحديداً أحببتها ولكنها أصبحت فجأة ومنذ كنت طفلاً كل شيء في حياتي».
لم يعرف بليغ لماذا أحب الموسيقى أو لماذا كان يحفظ الأغنيات بسرعة ربما أكثر من دروسه وهو طالب، أو ما الذي جذبه إلى حجرة الموسيقى في المدرسة ولماذا كان العود اختياره الأول من بين الآلات العديدة التي ضمتها الحجرة. المؤكد أن جزءاً من عشقه للموسيقى يرجع إلى الجينات الوراثية، كان والده عبد الحميد حمدي مرسي يهتم بها اهتماماً خاصاً، كما أكد د. مرسي سعد الدين، فرغم كونه أحد علماء الفيزياء المتخصصين في علوم البصريات وله مؤلفات عديدة، إلا أنه كان يهتم بالموسيقى على نحو خاص، فهو يجيد العزف على البيانو إضافة إلى تمتعه بصوت جميل وصداقته لمشاهير الموسيقيين في ذلك العصر أمثال القصبجي وزكريا أحمد، ما يفسر لماذا أحضر أستاذا للموسيقى لتعليم ابنتيه أسماء وصفية العزف على البيانو، إلا أن بليغ كان الأسرع في التعلّم.
أدرك والد بليغ موهبة ابنه مبكراً، فراح يشجعه بتعليمه العزف حتى وصل إلى درجة من الإتقان لا بأس بها، كذلك حرص على إسماعه الموسيقى الكلاسيكية إضافة إلى الموسيقى الشرقية، إذ كان يحتفظ بأسطوانات لأهم السمفونيات العالمية والأغاني العربية التراثية والمتداولة في ذلك العصر، الأمر الذي أدى دوراً كبيراً بلا شك في إثراء موهبة بليغ الموسيقية وفي تشكيل وجدانه، مع ذلك لم يخلط بليغ يوماً بين الموسيقى المصرية وأي «تيمات» غربية، كما كان يفعل الفنان محمد عبد الوهاب على حد توصيف د.مرسي، وهو ما أكده المتخصصون أيضاً، إذ نجح بليغ في «هضم» مجمل التيارات الموسيقية ليتمكن من أن يكون كائناً منفصلا، خاصاً ومتميزاً، ساعدته على ذلك ثقافته سواء في الموسيقى أو في غيرها من العلوم الإنسانية.
حرص والده على تثقيف وجدانه موسيقياً خصوصاً في مرحلة الطفولة، ما أهلّ بليغ لاستكمال هذا المشوار عندما تأكّد وعيه بانتمائه لهذا العالم لا محالة، فعكف على دراسة الموسيقى بشكل أكاديمي متخصص بعدما رفضت والدته التحاقه بمعهد الموسيقى العربية وأصرت أن يستكمل دراسته العليا في كلية الحقوق خوفاً من اتهامها بالتفريط في تربيته خصوصاً بعد رحيل والده، من جانبه ولأجل خاطرها وافق بليغ على دراسة الحقوق وإن لم يستطع اكمالها وظل مقيّداً بها سنوات طويلة على أن يدرس الموسيقى بالتوازي في المعهد العالي للموسيقى المسرحية، لأن الدراسة فيه كانت ليلية.
درس بليغ أصول الموسيقى وتعلّم كتابة النوتة وقراءتها على يد فنانة أرمنية كانت تدعى مدام «رطل» تدرب على يديها معظم المطربين المشهورين في ذلك العصر، كذلك درس «السولفيج» و{الهارموني» ووصل إلى مرحلة متقدمة إضافة إلى دراسة الموشحات والأدوار وبعض ألحان الفلكلور. في المقابل تعلّم اللغة الإنكليزية ليتمكن من قراءة الكتب الموسيقية التي كان يطلبها من شقيقه د. مرسي أثناء عمل هذا الأخير في لندن.
على طول الحياة
نقابل ناس
ونعرف ناس
ونرتاح ويا ناس عن ناس
أدى ارتباط بليغ بالشاعر الراحل كامل الشناوي دورا آخر في عملية تثقيفه وتربية وجدانه على الفهم والإدراك وهو ما انعكس ليس على ألحانه فحسب ولكن على وعيه بكل ما يحيط به، ما يشير إلى أهمية أن يكون الفنان متسلحاً بالثقافة العامة والفنية على وجه الخصوص.
يقول بليغ: «كان لقائي بالمرحوم كامل الشناوي مهماً وله تأثير كبير في حياتي، فلقد جعلني أقرأ تاريخ الأدب العربي كله بأحداثه و{حواديته» المشوّقة، قرأت مكتبة كاملة عن تاريخ مصر السياسي والأدبي، حفظت أشعاراً مختلفة وعرفت الكثير عن شخصيات التاريخ كأنني عشت معها وعاصرتها، باختصار استفدت من هذا الشاعر الذي جعلني شخصاً آخر أثناء فترة اقترابي منه والتي زادت على العشر سنوات».
هكذا أدى القدر دوراً في صياغة تلك الموهبة على يد شاعر كبير مثل كامل الشناوي، ربما لتعويضه عن غياب الأب، الذي رحل عنه في العام 1946 وكان في الرابعة عشرة من عمره، كذلك غياب شقيقه الأكبر د. مرسي (شغل منصب ملحق ثقافي في السفارة المصرية في لندن) أكثر من 12 عاما أي في المرحلة العمرية لبليغ من الثانية عشرة لغاية الرابعة والعشرين.
ضمّ بيت كامل الشناوي التيارات والأفكار عبر رواده وأصدقائه، لذا كان بمثابة المحراب الذي تخرجت فيه أجيال من المبدعين في المجالات المختلفة، «البوتقة» التي انصهرت في داخلها المواهب فنجح هذا الساحر في التقاطها وإضفاء الكثير عليها، من بينها بليغ الذي أدرك الشناوي، آخر ظرفاء هذا العصر، حجم موهبته الموسيقية ومن ثم مدّ له يد العون فانطلق عبره إلى آفاق أكثر رحابة.
المؤكد أن كل هذه العوامل وغيرها أدت دوراً بارزاً ورئيساً في تشكيل وجدان بليغ الذي راح يصقل موهبته بالدراسة المستفيضة في شتى علوم الموسيقى ويعمق معرفته بفنون التلحين.. و...
انتبه بليغ إلى صوت الباب حينما دفعه أحدهم بحدة ربما لم يتعمدها ولكنها كانت كفيلة ليفيق من ذكريات الطفولة التي خطفته للحظات وربما لساعات من هذا الواقع المرير الذي كُتب عليه معايشته لأيام وربما لسنوات. في الأيام التالية استعاد المشي ربما يعينه على إفراغ ما بداخله من قهر، مضى يقتل الزمن بالملل وفي ملل، يتأمل من حوله في شرود لم يفهمه وإن لم تشغله أسبابه..
• في الحلقة المقبلة نتابع معاً قراءة أوراق بليغ، «أعز الناس»، «الموعود بالعذاب».
المصدر صوت العراق
الرئيسية 
كيف تعرفت على الرابطة؟ 
من طرف 
موضوع: اجزاء من كتاب الموعود بالعذاب بليغ حمدي... الطير المسافر ..الجزء الثانى 
