سواح وماشي في البلاد
كانت السفينة الكبيرة تشقّ البحر الواسع وهو على ظهرها يتابع باستمتاع ما يدور حوله من هرج ومرج، وفجأة تبرق السماء وترتعد، ينهمر المطر ويعلو الموج كالجبال، صيحات استغاثة، يشهق في رعب ثم يفيق من نومه.
لأيام تالية ظل هذا الحلم/ الكابوس يتكرر: رعد، برق، موج و... التفاصيل نفسها، تساءل بليغ هل لساعات النهار الطويلة التي أدمن فيها الجلوس أمام البحر يراقب الرذاذ المتطاير من ارتطام الموج بالصخور المحيطة، ثم انحسارها، ورائحة البحر التي تختلط في أنفه بدخان سجائره، دور في صياغة المشهد الكابوس؟!
لم يحدث ما يزيد وحشة الأيام، كذلك لم يكن يسرف في تناول العشاء ولا الطعام عموماً، قليل فحسب مما يسمح بمواصلة الحياة، فحرص أياماً تالية على أخذ حمام دافئ قبل أن يخلد الى النوم، ومع ذلك تكرر الكابوس، زاد أرقه وانقبض قلبه وبات يجثم على صدره.
يراجع الطبيب فيؤكد له أنه أفضل مما يظن، لا يصدقه ويتشكك في ما يقول، يحاول استرجاع لحظات متوهجة مرت في شريط الحياة ويقنع نفسه بأن فيها الكثير مما يستحق أن يعيش له، يقرر أن الدنيا على رغم كل شيء كانت كريمة معه، و... لا جدوى.
إنه الرحيل إذن... العلاج السحري الذي يلجأ إليه دوماً كلما اشتاق الى لحظة سكينة يرتاح معها جسده المنهك وروحه المعذبة.
يتمتم :»لندن امرأة كئيبة تجثم على الصدر بغيومها وأمطارها، أما باريس فبهيجة متأنّقة تسحرك بعطرها وجمالها وتحضُّرها».
على حسب الريح ما يودي الريح ما يودي
وياه أنا ماشي ماشي... ماشي ولا بيدي
معر فش إن كنت مروح... ولا أمتى الهوى ها يهدي
وأهي دنيا بتلعب بينا... يمكن ترجع غناوينا
وسط الأغنيات الكثيرة التي قدمها بليغ وتجاوزت 1500 أغنية منوعة، احتلت أغنيات السفر مساحة خاصة جداً على خريطة إبداعه، سواء التي تدور حول الفكرة ذاتها بشكل مباشر أو تلك التي تحوم حولها، ثمة دوماً رحيل ما، فراق وغربة، دموع ووداع وكثير من الاشتياق، العودة «لأحضان الحبايب» ثم رحيل آخر وهكذا...
بالتأكيد لا يمكن اعتبار تلك الاختيارات من قبيل الصدفة، فبليغ لم يكن مجرد ملحن تتحرك أوتاره من دون إرادة، بتعبير أدق لا تُفرض عليه اختيارات، وثمة فعلاً أكثر من واقعة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يلحّن إلا ما يتوافق مع فكره ووعيه، أحاسيسه ومشاعره وما دون ذلك لا يمكنه التعامل معه، ربما أبرزها رفضه تلحين أغنية «حسيبك للزمن» التي عرضتها عليه كوكب الشرق أم كلثوم، وذهبت في ما بعد الى السنباطي فأبدع صياغتها، وكانت حجّته رفضه للمعنى العام الذي تطرحه الأغنية.
وهكذا تسقط الصدفة ويبقى الاختيار الحر المسؤول والمتوافق مع طبيعته، فبليغ نفسه كان «حالة سفر» ما إن يلبث يفتح حقائبه حتى يغلقها ليرحل.
يقول: «أنا أموت في السفر، تيجي لحظة أحس فيها إنني يجب أن اختفي، جواز سفري موجود وجاهز دائماً، ثمة تأشيرة خروج جاهزة لمدة ستة شهور ما إن تنتهي حتى أحصل على غيرها».
ولكن لماذا كان مشدوداً الى الرحيل دائماً، هل السر يكمن في طبيعة الفنان القلقة الباحثة دوماً عن كل جديد؟
بالتأكيد بليغ حالة شديدة الخصوصية، متمرد وراغب دوماً في كسر الملل والسائد من حوله، تحرِّكه رغبة البحث عن الجديد، يفتّش في الوجوه من حوله فيستوحي منها مفردة مختلفة ومتميزة يستقيم معها النص، نغمة حائرة تستقر بأمان على أوتاره، باحث دائم عن «الشوق» في العيون و...
والنبي وحشتنا وحشتنا وحشتنا
في غيابك عننا وحشتنا وحشتنا
ده احنا من غيرك ولا حاجة
وناقصنا كام مليون حاجة
من يوم ما فارقتنا
ودموع على خدنا
المؤكد أن في السفر سبع فوائد كما يقولون، لكنه مع بليغ ربما تجاوز هذا الرقم والمعنى أيضاً.
- آلو يا عبد الرحمن (الأبنودي) شوف يا حياتي تسعة ونص بالضبط حاكون عندك... هيثم (ابن شقيقه حازم) أهو جنبي حيوصلني.
الساعة التاسعة والربع يسأل هيثم:
- جاهز.
- أيوه جاهز
- طيب يا لله بينا على إسكندرية.
- إسكندرية إيه يا والناس اللي منتظرينك؟
- معلش... حاكلمهم من هناك، مالكش دعوة أنت.
هذا المشهد يتكرر كثيراً، ليس فحسب للإسكندرية معشوقته، ولكن لأي مكان «يناديه»، ولا يعني هذا أنه كائن «فوضوي» لا يلتزم بمواعيده أو التزاماته، ولكنه شخص يمد خط الإحساس لمنتهاه كما يؤكد جميع أصدقائه ومعارفه ومن ارتبط بهم في حياته، الملل كلمة ملغاة تماماً من قاموسه، طوق لا يمكن تطويقه، لذا كان الرحيل دوماً هو العلاج الذي يساعده على التعايش ومن ثم التجدّد.
سواح وأنا ماشي ليالي سواح
ولا داري بحالي سواح
من الفرقة يا غالي سواح
إيه اللي جرى لي سواح
لا أنا عارف أرتاح
وأنا تايه سواح
كان بليغ فعلاً «سواح» في بحر الحياة والنغم، الدنيا «زي المواني» كما يراها و»كله في المواني يابا وآه على المواني»، ما يفسّر لماذا تعددت علاقاته وسفرياته وأغنياته التي جاءت ترجمة حقيقية لهذه الحالة، فمثلاً غنت له نجاة الكم الأكبر من هذه الأغنيات المعبّرة عن لحظات السفر والشوق للمحب أو الحزن على فراقه ربما أميزها أو أكثرها شهرة «الطير المسافر» و»ليلة من ليالي فاتونا» التي قال عنها بليغ إنها من أحب ألحانه على نفسه، غنت له نجاة أيضاً «السفر»، «في السفر بشوفك، و»في وسط الطريق وحدينا»، و»النبي خلينا نشوفك» و»حتسافر وتسيبني».
أما شادية فغنت له أشهر أغنياته للسفر مثل «خلاص مسافر» و»قولوا لعين الشمس»، «والنبي وحشتنا»، «ناوين خلاص على السفر»، و»خدني معاك ياللي انت مسافر»، وبصوت العندليب كانت «سواح»، «ماشي ماشي من كام سنة»، وبصوت الحجار كانت «طب قولنا لما أنت ناوي على السفر» و»على سفر»، وغنت له وردة «بلاش تفارق»، ورشدي غنى له «تغريبة»، «في انتظارك»، «ميتى أشوفك يا غايب عن عيني»، وعفاف راضي غَنَّت «المواني»، «تساهيل» و{الغربة» وأغنيات أخرى كثيرة تؤكد بلا شك أنه كان عاشقاً للترحال والسفر.
حتى التلحين بالنسبة إليه كان «حالة سفر» يبحر فيها بين القوالب الموسيقية المختلفة يستقي من هنا وهناك، يتعرف على إيقاعات مختلفة فيضمنها ألحانه ليصيغ في النهاية لحناً يحمل روحه المجدِّدة المحطِّمة لكل القوالب والكليشيهات المعتادة.
وحاسب وانت ماشي
وهدي خطوتك
لتدوس وانت ماشي
على قلوب حبتك
راحت من زمان
غدر بيها الزمان
الزمان الزمان
أتاح السفر لبليغ الفرصة لأن تربطه الصداقة بعدد من الرؤساء والملوك وعلى رغم هذا حرص دوماً على ألا يستثمرهذه العلاقات، بتوصيف أدق لا يموت على أعتابها، فمثلاً في أزمته الأخيرة وبعد صدور الاتهام المشين ضده تلقى بليغ دعوة من الملك الحسن الثاني، ملك المغرب، بإرسال طائرة خاصة وجواز سفر ديبلوماسى مغربي، إلا أنه اعتذر عن عدم قبول هذا العرض كما يؤكد شقيقه د. مرسي سعد الدين، والذي ينفي أيضاً ما تردد حينها من أن الحسن طلب رسمياً تحويل ملف القضية الى القضاء المغربي نظراً الى أن المتوفاة كانت مغربية. وينفي الجميع بالطبع ما تردد آنذاك من أن تدخلاً مغربياً ساهم بطريقة أو أخرى في حصول بليغ في النهاية على البراءة وإغلاق ملف القضية.
ربطته صداقة أيضاً بالرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، وشارك مع العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ في الاحتفال بأحد أعياد ميلاده بأغنية أهديت له بصوت العندليب وكتبها محمد حمزة تقول:
من شعب مصر ومني أهدي الحبيب تحية
ومن مواويل لحني ضفت الأغاني الشجية
وعلى ذكر الرؤساء ربطته صداقة قوية بالرئيس الراحل أنور السادات بدأت كما يقول د. مرسي في فترة حكم عبد الناصر عندما كلّف السادات بالاتصال ببليغ، بعد أن لمع نجمه، لإنشاء مسرح غنائي مصري، ووُضعت، بأوامر من عبد الناصر، كل الإمكانات المادية والمعنوية تحت تصرّف بليغ لإنجاز هذا المشروع الضخم، وفعلاً بدأ في تنفيذ أحد أحلامه وقدم أكثر من مسرحية غنائية مثل «تمر حنة»، و{أم العروسة».
في المقابل، حين طلبت منه قرينة الرئيس آنذاك جيهان السادات أن يتبنى صوت ياسمين الخيام رفض مؤكداً للجميع أنه لا يلحّن بالأمر.
وكانت جيهان آنذاك تبحث عن أي صوت يمكنه أن يقلّص من نجومية سيدة الغناء العربي أم كلثوم التي كانت زوجة الرئيس تمقتها شخصياً.
غير أنه ووسط سفرياته المتعددة لبلاد الله، كانت للمغرب العربي خصوصية، قدر غريب ربطه بهذه البلاد وأهلها، فتزوج بليغ من وردة «الجزائرية»، وأصابته لعنة مليان «المغربية»، ومنها أيضاً أطلق موهبة سميرة سعيد، ومن قبلها عزيزة جلال (أشهر من جلست على كرسي الانتظار)، وقدم أيضاً ألحاناً لحنان وثريا ولكنهما لم تتمكنا من مواصلة المشوار كغيرهما من بنات المغرب.
كذلك كان لتونس وجود على خريطة اكتشافات بليغ، إذ جاءنا منها بلطيفة التونسية التي تحكي لنا عن تلك الأيام قائلة:
«في العام 1983حضرت الى القاهرة بصحبة والدتي وشقيقي وبعض الأصدقاء لقضاء عطلة الشتاء، بهدف الترويح عن والدتي التي انتابتها حالة حزن بعد رحيل رفيق حياتها، وتصادف أن أحد الأصدقاء في الرحلة كان تعرّف على متن الطائرة الى أحمد، نجل الموسيقار الكبير الراحل محمد عبد الوهاب، الذي طلب منه أن يتصل به فور وصوله للقاهرة، وبالفعل اتصل به ودعانا الى العشاء في منزله، وعلم أحمد بأنني أغني لأم كلثوم وليلى مراد وأسمهان، وبالصدفة كان الموسيقار بليغ حمدي يتصل بأحمد ليطمئن منه على صحة والده، فطلب منه أن يأتي فوراً لأنه وعلى حدّ وصفه وجد كنزاً لن يقدره إلا بليغ».
تواصل لطيفة: «خلال نصف ساعة حضر بليغ فعلاً وغنيت له
«افرح يا قلبي» و»ح قابلو بكره» وقبل أن أكمل الأغنية كان اتصل هاتفياً بالشاعر الغنائي الراحل عبد الوهاب محمد وطلب منه الحضور على وجه السرعة وسط ذهولي أنا والحاضرين، لأعاود الغناء مجدداً، وفي نهاية السهرة حاولا (بليغ وعبد الوهاب) إقناع عائلتي بضرورة انتقالي الى القاهرة. وبعد اجتيازي المرحلة الثانوية وعلى الرغم من صعوبة ظروفنا المادية في تلك الفترة إلا أن عائلتي بأكملها قررت التضحية لأجلي وبالفعل حضرت الى أم الدنيا مصر ومجدداً استقبلني بحفاوة الموسيقار الراحل الذي ساعدني في الالتحاق بالمعهد العالي للموسيقى العربية، خصوصاً أن لجنة اختبارات القبول كانت مشكَّلة من عمالقة الموسيقى والغناء في العالم العربي، إضافة إلى أن المنافسة كانت شديدة جداً، إذ كان ثمة 150 طالباً وطالبة من الأقطار العربية كلها ينتظرون دورهم للامتحان، بل إن معظمهم درس الموسيقى وحصل على شهادات فيها من معاهد كبيرة، لكني والحمد لله أُعجبت اللجنة بأدائي حتى أن د. رتيبة الحفني قالت لي حينها (أول مرة أسمع أسمهان بتغني لأم كلثوم) وعندما اتصلت ببليغ حمدي لأبشره قال لي «برافو يا لطيفة... ظني فيك لم يخب... أنا متأكد من نجاحك».
أنساك... دا كلام
أنساك... يا سلام
أهو دا اللي مش ممكن أبداً
ولا أفكر فيه أبدًا
دا مستحيل قلبي يميل ويحب يوم غيرك أبدًا
أهو دا اللي مش ممكن أبدًا
ما روته لطيفة لا يختلف كثيراً عما حكته سميرة سعيد، صحيح لم يكن أول من استقبل موهبتها حينما قررت أن تخطو أول خطوة في مشوارها الفني، ولكنه وبشهادتها كان أبرز من دعم وجودها في المحروسة. تقول سميرة: «كنت لفتّ الأنظار الى موهبتي والتي تحمس لها الملك الحسن، وعبر احتفالاته سمعتني أصوات عدة كانت تحرص على المشاركة في تلك الاحتفالات، في مقدمها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي نصحني بعدم إرهاق صوتي في تلك المرحلة من العمر. غير أنني نجحت في إقناع عائلتي بضرورة السفر الى أم الدنيا والالتحاق بمعهد الموسيقى العربية، كذلك نجحت في التعرف على الموسيقار محمد سلطان الذي قدم لي أغنيتين وهما «الحب اللي أنا عايشاه» و «الدنيا كده»، ثم التقطني المايسترو بليغ حمدي الذي قرر أن يقدمني بشكل مختلف، فقدم لي ألبوم «أحلام الأميرة»، ثم ألبوم «بنلف» وهي من كلماته وألحانه، و»علمناه الحب» التي وضعتني على القمة لتتوالى الأعمال مع بليغ، مثل «آه يا هوى»، « أسمر ملك عمري»، «أنا أجرحك»، «جوه البيوت» و»حكاية» وغيرها من الأغاني التي نجحت عبرها في أن أضع أقدامي بثبات على خريطة الغناء».
وتعدّ سميرة سعيد أكثر فنانة غنّت من كلمات بليغ حمدي.
علمناه الحب على أيدينا
ولما اتعلم بص لغيرنا وحب علينا
يا سلام سلم
علمناه واحنا بنهواه
بس ياريتنا ما علمناه
كنا زماننا لا بنتندم ولا نتألم
علمناه وأمرنا لله
المؤكد أن بليغ كان دائم البحث عن الأصوات الجديدة، يتحمس لها ويظل يدعمها حتى يصل بها الى القمة، فمن المشرق العربي كانت له بصمته المميزة على سمية القيصر وميادة الحناوي التي لحّن لها ألحاناً كثيرة صنعت نجوميتها لعل من أشهرها «الحب اللي كان» والتي كتبها بليغ ليعبّر من خلالها عن حياته «اللي كانت» مع وردة بعد انفصالهما، و»أنا بعشقك» رسالته الأخرى لوردته، وأغنيات أخرى كثيرة كانت وستظل هي الأشهر في رصيد ميادة، ما دفعها الى الرد بعفوية عندما سُئلت أخيراً في أحد البرامج التلفزيونية عن الملحن الذي تريد التعامل معه فقالت: «أتمنى العمل مع بليغ حمدي الذي أفتقده بشدة وما زلت أحتفظ بعوده الخاص الذي أهداه لي قبل وفاته».
أنا باعشقك أنا أنا كلي ليك أنا
عمري ليك أنا يا من ملك روحي بهواه
الأمر لك طول الحياة الماضي لك
وبكره لك وبعده لك
وباسألك
بتحبني ولا الهوى عمره ما زارك
بتحبني ولا انكتب ع القلب نارك
أنا باعشق الكلمة اللي بتقولها. وباعشق ضحكتك
أنا باعشق الليل اللي في عيونك وباعشق رقتك
أنا باعشق الأرض اللي عدت فيها يوم خطوتك
تميّز بليغ بقدرته على وضع أي صوت يلحن له في الإطار الموسيقي الصحيح، وبما يبرز إمكاناته الصوتية وشخصيته الفنية على النحو السليم، ما يفسّر لماذا عاشت أغنياته في وجداننا ولماذا أيضاً، وهو الأهم، كانت هذه الأغنيات بمثابة العلامة الفارقة في مشوارهم الفني... نقطة الضوء التي تربطهم بالجماهير.