هل يمكن الحديث عن «العشق و الهوى» من دون أن تتصدر ألحان بليغ حمدي المشهد؟ هل يمكن الإبحار في ألحانه وعدم التوقف أمام شواهد عدة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أننا أمام موجة من «تسونامي العشق»، تتساوى في أعماله للنقشبندي، أم كلثوم، حليم، شادية، نجاة، وردة، ومحمد رشدي... حتى أغنياته الوطنية كلها نغمات تجسّد حالة عشق شديدة الخصوصية.
حمدي «سيرة الحب والعشق»، قال: «الحب من سمات الفنان فعلاً، واللي مفيش جواه حب، ما اعتقدش حيبقى في جواه فن». لم تحدد كلماته لوناً محدداً للحب، هو يراه كائناً مكتملاً لا مجال فيه للفصل بين حبه للوطن، أمه، أصدقائه أو حبيباته اللاتي لم يستطع نزع آثارهن من دفتر أيامه.
في حواره مع الإعلامي وجدي الحكيم أكد حمدي هذا الكلام قائلاً: «الحياة من دون الآخرين لا معنى لها، مش كفاية تكون مبسوط، لا، لازم تحس بسعادة الآخرين وبحزنهم». وفي موضع آخر أوضح: «لا أتصور شاعراً مثلاً قاعد كل همه إنه يشتم في الناس، الشاعر الحقيقي هو اللي يحب، والحب لازم يكون حقيقياً نابعاً من جواه»...
كلمة الحب اللي بيها... تملك الدنيا وما فيها
واللي تفتح لك كنوز الدنيا ديه... قولها ليه
قولها للطير... للشجر... للناس... لكل الدنيا...
قول الحب نعمة... مش خطية
الله محبة... الخير محبة... النور محبة
بعيداً عن الحب، كشف حمدي عن سبب آخر للتميز: «ألحاني كافة التي دخلت قلوب الناس سواء لأم كلثوم أو غيرها، كان مصدرها القرآن الكريم لأنه كان يجمع في آياته أجمل الألحان وأعظمها». فهل لهذا السبب اتجه في نهاية حياته إلى الفكر الصوفي، كما يؤكد شقيقه أم أن صداقته للشيخ سيد النقشبندي وتجربتهما الثرية في الابتهال الديني تركت آثارها على وجدانه، ثم بات هذا الفكر يتحين الفرصة للتحرر، خصوصاً بعد سنوات الغربة اللاإرادية.
في هذا المجال، قال د. مرسي: «يبدو أن الغربة والوحدة أوجدتا لديه هذا التوجه، والدليل ما كتبه حمدي بخط يده من كلمات وأفكار عن العشق الإلهي، كذلك دوّن معانٍ لكلمات القرآن الكريم، وإن كنت أعتقد أن فترة صداقته للشيخ النقشبندي هي التي جعلته يجتر هذا المخزون الفكري في غربته بعد أن زهد رَغَدْ الحياة ومباهجها»...
مَوّلاي إنّي ببابكَ قَد بَسطتُ يَدي...
مَن لي ألوذُ به إلاك يا سَندي؟
أقُومُ بالليّل والأسّحارُ سَاهيةٌ
أدّعُو وهَمّسُ دعائي... بالدُموُع نَدى
بنُورِ وَجهِكَ إني عَائدٌ وجلُ...
ومن يعذ بك لن يَشّقى إلى الأبدِ
الثابت أن حمدي لم يكن يتعامل مع التلحين عموماً وفقاً لقوالب ثابتة، بتوصيف أدق لم يخصص «تيمات» محددة للأغنية العاطفية، أو الوطنية أو الشعبية أو الأوبريت... وهذا ما يفسر سر تميز تجربته في الغناء الديني التي حلق فيها بعيداً عن القوالب التقليدية ومقاماتها وإيقاعاتها، حتى أنه وفي بعض الأغنيات مزج الغناء الديني بالوطني كما في «بسم الله... الله أكبر» إحدى أشهر أغنيات حرب أكتوبر، أو في «المسيح» التي غناها عبد الحليم بعد يونيو 1967...
تاج الشوق فوق جبينه وفوق كتفه الصليب
دلوقت يا قدس ابنك زي المسيح غريب غريب
خانوه نفس اليهود
ابنك يا قدس زي المسيح لازم يعود
على أرضها
هكذا تعامل حمدي مع الأغنية الدينية كأي أغنية أخرى، ليس فحسب في اختياره جملاً موسيقية بعيدة عن المألوف، بل أيضاً بإدخاله آلات غربية لم تعتدها الأذن مع الغناء الديني التقليدي مثل الأورغ والغيتار، لتبقى تجربته مع الشيخ سيد النقشبندي في الابتهالات الدينية الأبرز في الغناء الديني عموماً وليس في تجربة حمدي الموسيقية فحسب.
النقشبندي كصوت قوي وعريض كان بمثابة تحد يستفز أي ملحن كي يصول ويجول، فما بالنا بحمدي الذي بحث عن مثل هذه التحديات دوماً، ثم حلّق بالأغنية الدينية على طريقته الخاصة، فجاءت مزيجاً بين الروح الشعبية والصوفية، مفرداتها قريبة من الوجدان، إيقاعاتها سلسة كما في «مولاي» التي على رغم أنها قدمت في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1973 كإحدى أغنيات الحرب لمساندة الجنود على الجبهة في حرب التحرير، إلا أنها بقيت ولا تزال إحدى علامات الشهر الفضيل، ما إن نسمعها حتى نستعيد معها طقوس الصيام.
أثمرت تجربة حمدي والنقشبندي ابتهالات أخرى كثيرة، كانت وستظل محفورة في وجداننا، من بينها مثلاً «ربنا إحنا جنودك»، «عليك سلام الله»، «أنغام الروح»، «أيها الساهر»، «أقول إمتى» وغيرها من أغنيات.
بعيداً عن النقشبندي، قدّم حمدي عدداً من أغنيات صنّفت بالدينية مثل «أنا عيني بتعشق فيك اسم الله»، «الله الله على الخاشعين» لوردة، و{أسماء» لعفاف راضي، لكنها لم تحظ بالنجاح نفسه الذي حققته تجربته مع النقشبندي.
لا فرق في ترجمة انفعالات حمدي الموسيقية، سواء العاطفية أو الدينية أو غيرها من الألوان الأخرى، إذ تعامل مع الموسيقى بوصفه هاوياً وليس محترفاً، عاشقاً لا يحب أن يصرخ، يحتج، أو حتى يتمرد في وجه هذه السلطة تحديداً، معها يتحرر من القيود، ولا مجال معها لأي إحساس بالقهر أو الظلم...
قال حمدي: «المزيكا بالنسبة إلي مش عمل ولا مهنة، المزيكا حالة حب، علاقة عشق متواصلة، عشق فيه الحب وفيه الغضب، يعني ساعات المزيكا تغضب مني، وأنا أيضاً ساعات أغضب منها، أحياناً أحاول أعمل حاجة فتصدني وتقولي مفيش، وساعات لوحدها تصحيني من النوم وتديني كل اللي بدور عليه».
وهكذا لم تكن علاقة حمدي بالتلحين مجرد مهنة اختار أن يحترفها بوعي وإصرار، بل حالة عشق وتواصل أبدي لم تفلح القوانين الوضعية والعلمية كافة في حسم علاقته به أو تغيير وجهة نظره عنه أو طرق تعامله مع آلياته.
لهذا حرص حمدي على تسليح نفسه بالعلم (كان يدرس الحقوق وفقاً لرغبة والدته ويواصل في الوقت نفسه دراساته الموسيقية المتخصصة في معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، ثم في المعهد العالي للموسيقى المسرحية)، ولولا هذا الإصرار في تدعيم موهبته بالدراسة لما تحمّس له محمد حسن الشجاعي صاحب القرار الأول والأخير في الإذاعة المصرية في تلك الأثناء.
عن تلك التجربة ذكر حمدي: «عندما تقدمت لاختبارات الإذاعة صوتياً وموسيقياً فوجئت بقبولي كمطرب فحسب، ولم أفهم حينها لماذا أصر الشجاعي على رفضي وبعناد شديد، ومرت السنوات واصلت فيها مشواري مع التلحين حتى فوجئت يوماً باتصال منه يطلب مقابلتي، وعندما ذهبت له أحسن استقبالي، وأعرب عن إعجابه بألحاني، مؤكداً أنه كان يشعر بهذه الموهبة منذ البداية، لكنه لم يرغب في دفعي إلى احترافها قبل أن يتأكد من دراستي الموسيقى دراسة حقيقية، مشيراً إلى أن المراحل المقبلة مراحل علم. صحيح للموهبة أهميتها وحضورها، لكنها ستظل ناقصة ما لم تعضد بالدراسة».
واصل حمدي: «كان الشجاعي يؤمن أن المستقبل للملحن الموهوب، الذي يعرف كيف يقرأ النوتة، وعندما تأكد من أنني أصبحت أملك هذه المعرفة وافق على اعتمادي في الإذاعة كملحن، بل أولاني رعاية كبيرة، فأرسلني إلى البروفيسور ميناتو ليعلمني النظريات الموسيقية، وإلى البروفيسورة جوليا ليعمق دراستي للبيانو».
الأمر الذي ترك أبلغ الأثر على حمدي في خطواته التالية، وحتى بدأت علاقته بالموسيقى تكتمل، أي أن يحظى بكلام يبدأ في تلحينه، يكتب النوتة، يغني، يحضر البروفات والتسجيل...
كيف بدأت علاقته عملياً بالتلحين؟ البداية العملية، كما يؤكد حمدي، كانت مع فايدة كامل زميلته في الجامعة وفي فرقة «ساعة لقلبك»، قبلها كان يكتفي بتلحين بعض الأغنيات الاستعراضية للفرقة التي كان يشارك فيها بالغناء أيضاً، ثم أعربت فايدة عن إعجابها بأغنية «ليه فايتني ليه» وطلبت أن تغنيها. وطبعاً، رحب حمدي بالعرض، فإذا بالأغنية تحقق نجاحاً كبيراً، الأمر الذي شجع فايدة على المطالبة بأغنيات أخرى فقدم لها «ليه لا» و{ليه قابلني» اللتين حققتا النجاح نفسه، ما دفع نجوم المشهد الغنائي آنذاك إلى البحث عنه ومطالبته بالتلحين لهم وفي مقدمهم هدى سلطان التي لحن لها «عزالك علموك ع الهجر»، ثم كامل حسني وأغنية «قولي أحبك ليه».
المؤكد أن هذه الألحان ساهمت في الترويج لحمدي بوصفه نمطاً جديداً من الملحنين، الأمر الذي ساعده على حسم قراره بالتوقف عن الغناء والتركيز على صياغة مشروعه كملحن.
ذكر حمدي: «كان التلحين يستحوذ على اهتمامي كله، فقد كنت متأكداً أنه مستقبلي وليس الغناء، حتى أنني كنت أرفض غالباً الصعود على المسرح لأغني محاولاً إقناع زملائي في الفرقة بأن يكتفوا بي كملحن، لكنهم كانوا يصرون على ضرورة غنائي، فكنت أرضخ لطلبهم كي أوفر للفرقة أجر المطرب الذي ستضطر للاتفاق معه اذا امتنعت عن الغناء».
بعد أربعة أعوام في الفرقة كانت مثمرة لكل منهما، قرر حمدي حسم الأمر كي يتفرغ لمتابعة دراسته الموسيقية ومعرفته بفنون التلحين، والأهم اقتحام الإذاعة والحياة على السواء كمطرب وكملحن أيضاً...
وبتسأل يا حبيبي بحبك قد إيه
ده حبك يا حبيبي بالعالم واللي فيه
بالشمس والقمر
بالنجمة والسهر
والنسمة والسفر
كان حمدي يحلم بموسيقى مختلفة، يستقي مفرداتها من الناس، لذا خرجت منهم ولهم، لتؤكد أن الصدق وحده هو بوابة العبور لوجداننا... يقول حمدي: «أنا فنان متجول، أبحث عن شيء مفقود داخل حنجرة معظم المطربين ألا وهو الصدق».
الحب والصدق إذن مفتاحا حمدي للتميز، وهما أيضاً مفتاحا التواصل معه كإنسان، والقيمة التي كان يبحث عنها في كل صوت جديد يكتشفه ويتحمس لتقديمه، فلا بد أن يكون عاشقاً لفنه، وصادقاً في طرحه، ربما في مقدمة هذه الأصوات الفنانة عفاف راضي التي كان وسيظل اسمها مقترنا بحمدي، فقد بدأت رحلتها الفنية من خلاله، وتوارت عن الأضواء بعدما غيبته الغربة مرة والموت نهائياً.
عفاف راضي انتزع لها حمدي شهادة ميلاد فنية وسط ساحة كانت مملوءة بالعمالقة: وردة، نجاة، فايزة، حليم، شادية...
التقطها مثلما يلتقط «الصائغ» جوهرة ثمينة وقرر أن يتبناها فنياً، ولم يكتف بتقديمها من خلال لحن «ردوا السلام» الذي ما زال يحتفظ بمكانته على خارطة الغناء، لكنه كان حريصاً على دعمها بشدة، إذ صمم على قيادة الأوركسترا بنفسه خلال غناءها للتأكيد على موهبة عفاف وتوصيلها إلى الجميع، ما ساهم ليس بدعمها فحسب، بل في إدخالهما دائرة الشائعات التي ظلت تربطهما طويلاً، خصوصاً أن التعاون بينهما استمر سنوات وأنتج أغنيات ناجحة من ينها: «وحدي قاعدة في البيت»، «هوا يا هوى»، «تساهيل»، «الرزق على الله»، «عطاشا»، «عين يا قمر»، «كله في المواني»، «راح وقالوا راح» و{جرحتني عيونه السودة» وغيرها.
حول هذه الشائعات يقول حمدي في أحد حواراته: {كل مطربة أعمل لها لحنا لا بد أن تظهر شائعة زواج بيني وبينها، وينسجون حولنا قصصاً وهمية، ولو كان كل ما يقال صحيحاً لأصبح لديَّ الآن 90 زوجة وحوالي 160 مولوداً!!}.
المؤكد أن الشائعات لم تربط حمدي بعفاف راضي فحسب، بل بكثيرات، مثل صباح التي قيل إنه تزوجها مدة يوم عرفياً، وسميرة سعيد التي كانت السبب في انفصاله عن وردة كما تردد، كذلك زوجته الشائعات من ميادة الحناوي كوسيلة تأمن لها الاستقرار في مصر، حتى الفنانة شادية التي ربطتها به صداقة قوية لم تسلم من تلك الشائعات، ربما ساعد على ذلك طبيعة حمدي المتمردة، وطريقته في ممارسة حياته «بطولها وعرضها»، يضاف إلى ذلك خصوصية المرأة في حياته، فهي وكما قال: «كل شيء في حياته ولا يمكن أن يتصور نفسه من دونها».
وهكذا بين «ماريا» اليونانية، ووردة «الجزائرية» كانت أسماء كثيرة، دخل بعضها دائرة الشائعات، وبعضها الآخر تحول إلى واقع ملموس مثل تجربته مع أمينة التي لم يستمر زواجهما أكثر من عام ونصف العام، مروراً بتجربته مع «إش إش» ابنة عبد الوهاب التي لم يكتب لها القدر الاستمرار، ثم فارق إش إش الحياة، وعلى رغم أن حمدي ذاب عشقاً بالفنانة سامية جمال إلا أنه فشل في الارتباط بها لأنها اعترضت على شرطه الخاص باعتزالها الرقص، وهو السبب نفسه تقريباً الذي أنهى علاقته بالفنانة نجوى فؤاد وإن كان البعض يؤكد أنها لم تكن تبادل حمدي المشاعر الجياشة نفسها، لأنها كانت خارجة للتو من قصة حب فاشلة بعدما رفضت والدة أحد الموسيقيين الاعتراف بزواج نجوى من ابنها كما يؤكد الصحافي فوميل لبيب، فخشيت التورط بتجربة أخرى تترك في داخلها الأثر السيئ نفسه.
تحضر المرأة بقوة في حياة حمدي، هي بمثابة شرارة الحياة والإبداع، «قبس من نور»، «طلة القمر»، «رائحة المطر»، هي من ترسم أيامه وتحتوي جنونه، وتساعده دوماً على تجاوز خطط الانقراض والتلاشي التي تداهمه حيناً وتهزمه كثيراً.
المرأة هي الحلم والألم أيضاً، لحظات الاشتعال التي لم يستطع يوماً العيش من دونها، أروع حريق استمتع بآثاره ورفض طمس هويته...
يا حبيبي إيه أجمل م الليل واتنين زينا عاشقين
تايهين ما احناش حاسين العمر ثواني ولا سنين
حاسين إننا بنحب وبس
عايشين لليل والحب وبس
يا حبيبي الحب حياتنا وبيتنا وقوتنا
للناس دنيتهم واحنا لنا دنيتنا
وإن قالوا عن عشاقه بيدوبوا في نار أشواقه
أهي ناره دي جنتنا
• في الحلقة المقبلة نواصل الإبحار في أوراق «الموعود بالعذاب»... «أعز الناس».
المصدر .صوت العراق