**
**شادية وحليم أعزّ الناس
لا يأتينا البحر بالريح والمراكب فحسب، ولا تحررنا أمواجه من أحزاننا ومجمل قيودنا فحسب، ولكنه دوماً يثير في داخلنا كثيراً من الشجون والذكريات والألم أيضاً.
طوال الأيام التالية كان بليغ يبحث لنفسه عن مكان يستهلك فيه بعضاً من أيام الغربة اللاإرادية تقوده أقدامه الى البحر وكأنه أدمن النظر الى الموج الآتي من «الضفة الأخرى» حيث «الوطن»، ثم يعود الى المدن الصاخبة التي يحيا فيها وحيداً.
كان شارداً تهاجمه الهموم بعنف، كموج البحر في قمة ثورته، مثل سلك كهرباء عار وقابل للاشتعال في أي لحظة.
المؤكد أن ثمة بركاناً تفجّر بداخله، وكالعادة لم يكن مهيأ للتعامل معه، لم يتوقف عند الأسباب كثيراً فلا يجدي البحث فيها، أركنها «للتداعي»، بحر، موج، مطر، وحزن تجدده الأيام بدأب، المحصلة وحيدة في مواجهة مجهول لا يعي تفاصيله بدقة.
عن تلك اللحظات حكى بليغ قائلاً: «مستعد أقف أمام «سبع» وأنا متماسك، لكن عندما أبقى لوحدي ينزف جرحي دمعاً، فأتألم وأبكي».
استخرج من جيبه «ورقة وقلم» رفيقا رحلته في الحياة عموماً وليست هذه الرحلة فحسب، فلقد كان دوماً جاهزاً لتسجيل أي خاطر موسيقي يلحّ عليه.
إلا أن الموسيقى لم تكن الدافع هذه المرة، كان الهم هو بطل المشهد، اللجام في يده قارصاً بما لا يطاق، ومن ثم اشتاق للحظة خلاص تتحرر فيها روحه، يرتاح فيها جسده المنهك، يتنفس، يتحاور مع آخر فربما ينجح في وقف زحف نباتات الوحشة التي تكاثرت بداخله.
راح يرصد ملامح عالم لا توجد فيه بدائل، يحكي عن أولئك الذين تبجحوا من دون خجل، آلام المرض الذي هاجمه هو الآخر بعنف وكأنه كان يتحين الفرصة للانتقام.
والله يا زمن لا بأيدينا زرعنا الشوك
ولا روينا
والله يا زمن مكتوب علينا
ومين عارف مصيره فين
فجأة اكتشف بليغ أنه لم يعد يكتب مجرد خواطر يلجأ إليها كلّما أحكمت الحياة إغلاق نوافذها في وجهه، ولكنه تيقّن أنه يكتب رسالة الى مصر، الى صوتها المعبر... شادية.
يقول بليغ في خطابه:
« لندن في 2/12/1988
الغالية الفنانة الحبيبة لكل إنسان في بلدي مصر... شادية
أكتب لك من وحدتي القاتلة، من غربتي النفسية العميقة، من مرضي الذي يهاجمني في كل لحظة، الكبد، الأعصاب، المرارة وهي الشيء الجديد الذي جد عليَّ وأحمد الله وأشكره على الجرح كما على الفرح.
شوشو أتابعك رغم هذا البعد، وكم كنت أتمنى رغم المرض أن أنتهي من لحن كلمات صغتها بدمعي لبلادي وقد سميتها لحظتها «هدية من مغترب» تصوري أنه ينتابني أنا أخيراً الإحساس بأني مغترب.
أختي الغالية
عندما اختلف الأطباء هنا في الرأي على مشكلة المرارة، فبعضهم يصر على أن العملية الجراحية ضرورية والآخر يعترض قررت العودة فوراً إلى مصر بمجرد تسلمي «الأشعات» الأخيرة مهما كلفني الأمر، فالموت في بلادي أهون من أي غربة.
وأتمنى أن توافق مصر على إكمال علاجي في أي مستشفى على ترابها وإجراء العملية فيها، وهذا ما سأرسله في برقية.
أنا مستعد لأن أواجه قدري بإيمان بالله ورحمته الواسعة.
أخوكي
بليغ حمدي»
المؤكد أن شادية لم تكن بالنسبة الى بليغ مجرد فنانة جمعه بها القدر منذ سنوات الطفولة والصبا كما حكت في حوار لها مع الكاتبة الصحافية حسن شاه.
تقول: «أنا وبليغ نعرف بعضنا منذ كنا أطفالاً نسكن الحي نفسه، كنا نسمعه أنا وصديقاتي وهو يعزف على العود، كنا «نعاكسه» أثناء عزفه فيطردنا بعيداً».
وكذلك ليست «مجرد فنانة» نجحت في نقل نغماته بإحساس وصدق الى وجداننا، ولكنها كانت إنسانة وفنانة وصديقة لها مكانة خاصة جداً في حياته، هي «صوت مصر» كما كان يراها ويصفها دوماً، أما الصداقة والزمالة فظلت تربطهما حتى آخر لحظة في عمره، ما يفسّر لماذا كان يلجأ إليها دوماً ليخفِّف من همومه، ولماذا شجعته بل وساعدته أيضاً على السفر من مصر في أعقاب أزمته الشهيرة، وقبل أن يصدر ضدّه قرار الاتهام وفقاً لما تردّد حينذاك.
أدركت شادية أن بليغ لن يتحمل نفسياً «اغتياله إعلامياً» خصوصاً مع تصاعد حدة الهجوم عليه، فشجعته على السفر بوصفه الحل السحري الذي كان يلجأ إليه دوماً كلما حاصرته المشاكل وأربكه الغم، وبذلك يمكنه أيضاً مراجعة الأطباء لمعرفة آخر تطورات مرضه. وعلى رغم أن شادية لم تؤكد كما لم تنفِ هذا الدور وحرصت كعادتها على التزام الصمت، إلا أن ما تردد في الكواليس حينذاك يؤكد أنها لم تكن فحسب صاحبة الفكرة ولكنها بادرت أيضاً الى إتمام الإجراءات، إذ طلبت العون من الفنانة فايدة كامل، عضو مجلس الشعب وزوجة وزير الداخلية الأسبق الراحل النبوي إسماعيل والذي ساعدها على رغم أنه كان خارج السلطة في تلك الأثناء.
غير أن خطاب بليغ والذي أرسله الى شادية وأشرنا إليه سلفاً كان يتضمن فقرة تسقط عن شادية هذا الاتهام، حيث قال:
«أختي الغالية
لست ممن يهربون من مواجهة المصاعب وأنت تعلمين ذلك عن أخوكي الصعيدي، لذا عندما اختلف الأطباء هنا في الرأي على مشكلة المرارة...»
هكذا ووفقاً لاعترافه لم يهرب بليغ ولم يساعده أحد على ذلك، وفي حوار الى مجلة «آخر ساعة» يقول:
«أنا لم أهرب من مصر قبل صدور الحكم في القضية، بل كنت مرتبطاً بموعد في مستشفى «سازازان» وهو أكبر مستشفى متخصص في علاج أمراض الكبد بالعاصمة الفرنسية، وذلك لأخذ عيّنة من الكبد، ولم يكن يخطر ببالي أنني سأدان بعد سفري».
وكان يُعرف عن بليغ حبه للسفر، وثمة بالفعل أكثر من واقعة تدل على هذا العشق ربما أبرزها واقعة تخليه عن «البروفة» مع كوكب الشرق بسبب سفره الى بيروت، تلك الواقعه التي كادت تتسبب في إنهاء علاقتهما الى الأبد.
يقول بليغ: «أنا بموت في السفر، تيجي لحظة أحس فيها بأنني يجب أن أختفي، جواز سفري موجود على الدوام في سيارتي، كانت معي دائماً تأشيرة خروج لمدة ستة شهور، ما إن تنتهي حتى أحصل على غيرها».
خلاص مسافر
مسافر مسافر
صحيت في يوم من الأيام
حسيت أني يا عيني غريب
حسيت بغدر الصحاب
أنا اللي ياما غنيت على الليالي
في الفرح موال وفي الجرح موال والصبر موال
أصبح على دي الحال
غريب
غريب ولا حد جنبي قريب
قلت أسافر... مسافر
«تطربني الموسيقى وقدرتها السحرية على أخذي من هنا إلى أماكن وأزمنة أخرى...»، كان يتمتم بهذه الكلمات فيما يتابع عازف كمان تصدّر بنغماته العذبة ميدان الطرف الأغر (ترافالغار) الشهير في لندن.
أدخلته الموسيقى في حالة من الشجن ساعد على دعمها مشهد الحمام المنتشر من حوله ومداعباته للبشر، أضيف له الطقس الذي كان دافئاً على غير العادة.
تنهّد بليغ حينما تذكر زياراته المتكررة الى لندن والى هذا المكان تحديداً بصحبة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ رفيق مشوار الفرح والألم، تذكر أول لقاء جمعهما عام 1957 وكيف نجح العندليب في «اقتناص» أغنية «تخونوه» على رغم أنها كانت معدّة أصلاً للفنانة ليلى مراد لتطل بها على جمهورها الذي غابت عنه سنوات طويلة اختياراً لا قهراً.
ابتسم بليغ وهو يتذكر كيف تجرأ العندليب واتصل بليلى مراد يرجوها بأن تتنازل له عن اللحن، وتذكرأيضاً كيف خرج غاضباً، خانقاً لضياع فرصة عمره في أن تغني ليلى مراد مطربته المفضّلة أحد ألحانه، تلك الموهبة التي لم ولن تتكرر مرة أخرى كما كان يؤكد دوماً.
بليغ وحليم حالة شديدة الخصوصية على خريطة الغناء، تجربة ثرية ومتنوعة كانت وستظل تدعوناً الى البحث والتأمل، لم تجمعهما الألحان فحسب ولكنهما اقتسما معاً الأيام بكل ما فيها من فرح، حزن، وغضب...
في حواره مع الإعلامي وجدي الحكيم يحكي بليغ عن صديقهما المشترك قائلاً: «على رغم صداقتي المبكرة لعبد الحليم، وعلى رغم أننا كنا نسهر كل ليلة تقريباً في معهد الموسيقى، إلا أن التعاون بيننا بدأ متأخراً بعض الشيء».
ويواصل قائلاً: «علاقتي بحليم علاقة خاصة جداً، كنت أخاه وصاحبه، نسافر سوا وننام سوا، حليم هو الصوت الذكي، كان لديه وعي كامل فكرياً وأدبياً، لأنه تربى على أيدي ناس عظماء».
على طول الحياة نقابل ناس
ونعرف ناس ونرتاح ويا ناس عن ناس
وبيدور الزمن بينا يغير لون ليالينا
وبنتوه بين الزحام والناس ويمكن ننسى كل الناس
ولا ننسى حبايبنا أعز الناس حبايبنا أعز الناس حبايبنا
بليغ شارك حليم أيضاً تجربته السينمائية، وعبر 16 فيلماً قدّم له أنجح الأغنيات فيها منها «تخونوه» في فيلم «الوسادة الخالية»، «خسارة خسارة» في «فتى أحلامي»، «خايف مرة أحب» في فيلم «يوم من عمري» ،»جانا الهوى» و «الهوا هوايا» من فيلم «أبي فوق الشجرة» وغيرها.
أما على مستوى الأغاني الوطنية فقدّم له أحد أجمل الأغنيات «موال النهار» والتي قدّماها عام 1967 أي في أعقاب الهزيمة العسكرية، وكانت من إبداع عبد الرحمن الأبنودي الذي كتب لهما أيضاً في العام نفسه أغنية «المسيح»، والتي غناها حليم على مسرح «ألبرت هول» أكبر مسارح لندن.
وبعيداً عن الأبنودي كانت لبليغ وحليم تجارب أخرى متميزة مع الأغنيات الوطنية مثل»البندقية اتكلمت» لمحسن الخياط، قدماها عام 1968 أثناء حرب الاستنزاف، وأغنية «عاش اللي قال» وكانت مع حرب التحرير في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973.
الـــــهـــــــوى هـــــوايـــــا
واخــطـــف نـــجــم الليـالـي
يضوي يا أحلى الصبايــــــــا
ابـنيــلـــك قصــر عـــالــــي
واشغـــلك عقــد غــالــــــي
أنا الـــــهـــــوى هـــوايــــا
يبقى القمر قاريبنـــــــــــــــا
والنسمه اللي تاخذنـــــــــــا
الـــــهـــــــوى هـــــوايـــــا
ندخل كتب الحكـــــــــــاوي
واعمل طبيب مـــــــــداوي
أنا الـــــهـــــوى هـــوايــــا
بصمة أخرى من البصمات «البليغية في مشوار العندليب يمكن تلمّسها في الأغنيات التي وصفها البعض بالشعبية، فيما أسماها بليغ الباحثة في التراث، وبغض النظر عن المسمى فإنها كانت أشبه بطوق النجاة الذي ألقاه بليغ لحليم كي يحرر حنجرته من الحصار في نوعيات محددة من أغنيات السهد وعذاب المحب وغيرها من تراث «النواح والبكائيات» في رصد مشاعر المحب، تلك التي أدار لها بليغ ظهره تماماً، فما لا يتوافق مع وعيه ورؤيته الخاصة كإنسان لا يمكنه التعامل معه كفنان بدليل رفضه تلحين أغنية كوكب الشرق «حسيبك للزمن»، بسبب «الزمن حيدوقك في البعد ناري... الزمن هو اللي حيخلص لي تاري»، متسائلاً: «كيف أقول لحبيبي هذا الكلام».
المؤكد أن أغنيات «سواح»، «توبة»، «مداح القمر» ومجموعة أغنيات الهوا (الهوا هوايا، زي الهوا، جانا الهوا) بقدر ما منحت حليم ميلاداً مختلفاً فإنها وللأسف قضت على تجربة أخرى رائدة مع الشعبيات صاغها أيضاً الثنائي عبد الرحمن الأبنودي وبليغ بصوت محمد رشدي، والذي كان دوماً يردد ويؤكد أن حليم «وأد» تجربته مع الشعبيات على رغم كل ما حققه فيها من نجاح عندما تمكّن بذكاء من الاستيلاء على بليغ، وهو ما نفاه الأبنودي قائلاً: «لم يكن كل ما أكتبه يصلح لصوت محمد رشدي، فمثلاً لا يستطيع عبد الحليم أداء أغنية مثل «عدوية» التي قدمها رشدي بنجاح، كما أن الأخير لا يمكنه أيضاً غناء أغنية «أحضان الحبايب»، كذلك الأغنيات الوطنية التي قدمت بعد الهزيمة العسكرية في 67 ما كانت تصلح لرشدي ولا قنديل، ولا محرم فؤاد، وكلها أصوات جميلة، ولكنها لا تصلح لهذه الأغنيات، بل أعتقد أنه لو لم يكن ثمة عبد الحليم ما كانت هذه الأغنيات أصلاً، وهذا ما لم يفهمه رشدي، كما لم يفهمه الذين راحوا يرددون مثل هذه المقولات من أننا «بعنا» تجربتنا مع رشدي على رغم نجاحها الكبير، أو «ضحينا بها» لحساب عبد الحليم حافظ».
أما بليغ فقال: «لا مجال للمقارنة بين حليم ورشدي، والذي كان مغنياً عظيماً جداً، يحكي لك تاريخ مصر بالغناء، ومن خلاله عملت الألحان الشعبية بحب شديد، لأنها جوايا في دمي، وحكينا فيها «حواديت» أنا وهو والأبنودي والناس صدقتنا، أما عبد الحليم فحاجة تانية، الأغنية الشعبية معه لها طعم تاني مختلف، يعني مثلاً «أنا كل ما أقول التوبة» تختلف عن «ميتا أشوفك» مع أنهما لون شعبي، ولكن رشدي لون وحليم لون مختلف ولا يصح أبداً المقارنة بينهما».
أي دمـعة حــــــــــزن لا لا لا
أي جرح في قــلـــــــــب لا لا لا
أي لحظة حيــــــــــرة لا لا لا
حتى نارالــغـيـــــــــــــرة لا لالا
قلبي دق دق قـلـت مـيـن علـــى الببــــــــان دق
قال لي افتح داالزمان
قلت لـه جاي ليـه يـا زمـان بعد إيـــه يـا زمان
المؤكد أن حليم نجح بذكاء في سحب بساط النجاح من تحت أقدام رشدي، ودخل دائرة جديدة، أفق آخر أكثر رحابة من الأغنيات، ليس فحسب لأنه يملك ذكاء الموهبة، بل روح المغامرة أيضاً، تلك التي افتقدها طابور طويل من المطربين والمطربات فضلوا دوماً اللعب في المضمون.
أما بليغ فبالإضافة الى روح المغامرة والرغبة في تقديم كل ما هو جديد اللذين تمتع بهما، كان كسر المألوف والمتداول من أهم أسباب تميزه وما حققه من نجاح، لم تكن لديه قوالب جاهزة ثابتة يتحرك من خلالها بل رغبة التحدي الى تقديم الجديد، فمثلاً في أغنية «أي دمعة حزن لا» تحدّى من يقولون إن «الربع تون» مقصوراً فحسب على التعبير المسرحي، فقدم أغنيته من مقام «السيكا» ليبيّن لهم أنه مقام يصلح أيضاً للتعبير المسرحي.
يقول بليغ: «وقتها كانت ابتدت ناس تكتب في المزيكا وهي مش فاهمه حاجة، يعني واحد يقولك إن «الربع تون» مقصور على التعبير المسرحي، فأردت أن أثبت جهلهم من خلال هذه الأغنية، يعني حليم وهو بيقول «أي دمعة حزن لا» كان كأنه بيؤدي مسرحية، موقف فيها، أنا اعتبرتها كده وقت ما بديت ألحنها وقدمتها للناس بالصورة المسرحية دي، وأكثر واحد أحس بما قصدته من هذه الأغنية هو المرحوم عبد الحليم نويرة الذي كلمني وقال لي:
- بليغ.. إيه اللي أنت عامله في الأغنية دي، أنت عاوز تقول إيه؟
- عايز أقول مسرح.
- آه أنا حسيت بكده!».
يواصل بليغ قائلاً: «كنا ناويين أنا وحليم نكرر التجربة دي لكن القدر كان أقوى مننا.
ما لا يعرفه البعض أن الفنانة وردة وكانت زوجة بليغ في هذه الفترة أعجبت جداً بالأغنية وكانت تتمنى أن تقدمها، ولكن بليغ رفض، ما ينفي تماماً أنه كان يلبي دوماً كل ما تطلبه، يضاف الى ذلك أنه نجح في تقديم إبداعات أخرى خارج حنجرتها».
ولكن هذه الواقعة لم تُسكت ما تردّد من شائعات كانت متداولة في تلك الأثناء من أن وردة كانت وراء فترة الخصام الطويلة بين بليغ وحليم والتي وصفها الأخير «بالإرهاب الفني»، على الرغم من أن بليغ رفض الزج بوردة كسبب لما حدث بينهما قائلاً: «الله يجازي اللي كان السبب، الذين أوقعوا بيننا ليضعوا حداً للتعاون المثمر بين ألحاني وحنجرته».
وفي حواره مع صديقهما المشترك وجدي الحكيم قال بليغ: «علاقتي بحليم لم تكن كلها صفاء، يعني مش ممكن عشرين سنة تمر هكذا دون زعل وخناق، ياما اتخانقنا وياما زعلنا، لكن نرجع ناخد بعض بالأـحضان ونضحك، ياما اختلفنا في حاجات، وياما تركت له الدنيا وسافرت، وياما قعد يلف ورايا في لندن وباريس، لكن في الآخر كنا نواجه بعض بشجاعة ونتصافى لأن علاقتنا كانت صادقة جدا».
موعود معايا بالعذاب موعود يا قلبي
موعود ودايما بالجراح موعود يا قلبي
ولا بتهدا ولا بترتاح في يوم يا قلبي
وعمرك ما شفت معايا فرح
كل مرة ترجع المشوار بجرح
غابت الشمس فغادر بليغ الميدان عائداً الى البيت، بينما حليم ما زال حاضراً في المشهد يملأ خياله وذاكرته حتى شعر أنه يرى وجهه في كل الوجوه التي يتطلع إليها في ذلك المساء اللندني الكئيب...