هل رفض عبد الوهاب تزويجه من ابنته؟
للبحر حضور لافت، سحر خاص لا يمكن مقاومته، كعاشق يفتح ذراعيه ويدعوك بحميمية إلى الاحتماء، الارتواء، التوحد، الصمت في حضرته قانون... تنهد حمدي وهو يستنشق هواء البحر: «آه... كم مرة جرت دموعي وابتلعها بين أمواجه، كم مرة خلصتني من مجمل قيودي ومنحت أحزاني تذكرة سفر بلا عودة... لماذا لم تعد تحتويني شطآنه، لم لا تحمل همومي عني إلى حيث المجهول؟».
من بعيد جاءه صوتها هامساً:
بس... وحياة اللي فات
اللي أصبح ذكريات
عمري ما حبيت ولا تمنيت
غيرك أنت ياحبيبي
تعجب بليغ من أين جاءه صوت نجاة على شاطئ البحر وهي تشدو بأحب ألحانه الى نفسه، لم يهتم باكتشاف المصدر، فقد أخذه سحر الصوت مجدداً، أعاده إلى أزمنة أخرى كانت ولا تزال تحتفظ بإيقاعها داخله، حينما كان يستسلم وباستمتاع لحالة «الانخطاف» تلك، «الإدمان» الوحيد الذي دخله بوعي ويقين ورغبة في عدم الإقلاع عنه... ابتسم حمدي فما زالت التفاصيل حاضرة في ذاكرته كتلك التي حفرها على جذوع الشجر وضمنها ألحانه...
أنساك...
دا كلام...
أنساك... يا سلام
أهو دا اللي مش ممكن أبداً
الحب في حياة حمدي كالماء والهواء، لم يستطع العيش من دونه يوماً، حتى في السنوات التي لم تظللها قصة حب، كانت الأغنيات تعوضه معايشة الإحساس على أرض الواقع. باختصار، الحب والدفء هما قانونه الوحيد في التفاعل مع الحياة، لم يكفر به يوماً كما لم يمل في الدفاع عنه كقيمة إنسانية، يتساوى في ذلك حبه لأمه أو لوطنه أو حبيباته اللاتي لم يستطع نزع آثارهن من دفتر أيامه...
الهوى...
آه منه الهوى
سهران الهوى...
يسقينا الهنا...
ويقول بالهنا
مجدداً، داهمته الذكرى، أشعلته كصخب البحر أعادته بقوة إلى حكايات الشاطر حسن والسندريلا الجميلة وهو بالكاد لملم روحه من بين حطام السنين... لم يكن حمدي «زير نساء» على رغم تعدد علاقاته، وما تبعها من حكايات. المؤكد أنه كان يعي جيداً الفروق بين الصداقة والزمالة ولحظات التوهج المباغتة التي كانت تهاجمه بين الحين والآخر... و{بحبك» كلمة لم يستطع حمدي البوح بها آنذاك على رغم ما كان في داخله من أحاسيس ومشاعر لم يكتب لها التحرر من بين ضلوعه.
كان في الثامنة عشرة حينما خفق قلبه أول مرة. إنها ماريا جارته اليونانية حبه الأول الذي «تجمّد» قبل أن يكتمل مداره، توقف عند «طقوس الإشارات» فلم تحدث «التحولات». كان حمدي يذوب عشقاً وعلى رغم هذا يتلعثم خجلاً، يلتهب قلبه شوقاً ويتكتم البوح، وهكذا ظل في مرحلة المقدمات الطويلة المملة حتى رحلت المحبوبة مع أهلها بلا عودة...
رحلت لتخلف داخله مرارة ظلت عالقة في ذاكرته على رغم مرور السنوات، لم يستطع محو اسمها من على جذوع الشجر أو حبات المطر، حتى صدف البحر ما زال يقدس أغنيتها...
خسارة خسارة فراقك يا جارة
عينيا بتبكي عليكي بمرارة
القلب اللي بسهمك مجروح فين يهرب من حبك ويروح
على نار الشوق يتقلب و لا قادر يوم يتكلم
خلف غلاف شفاف من الخجل ضاعت أول «خفقة» شعر بها بليغ. صحيح قد يراها البعض مجرد مشاعر تحركها إرهاصات، لكنها وبغض النظر عن آثارها السيئة، إلا أنها كشفت حجم الخجل الذي عانى منه حمدي ليس في علاقاته العاطفية فحسب، بل في حياته عموماً. باختصار، كان «الخجل» البطل في حكايات كثيرة رويت عنه، و{بيت الداء» الذي أوقع حمدي في إشكاليات عدة أبرزها أو بالأحرى أشدها قسوة حادثة المغربية التي سقطت من شرفة منزله وما تبعها من تطورات، فلولا «الخجل» من جرح مشاعر أحد الأصدقاء لرفض أن تدخل بيته تلك الفتاة التي لم توجه إليها الدعوة أصلاً، بل جاءت بصحبة صديق تعامل مع بيت حمدي بوصفه بيته، وهذا ما أكده كل من كانت لهم صلة بحمدي، فبيته بيتهم ومفتوح دوماً حتى في غيابه، وصباح مديرة منزله تعكف على خدمة الجميع بلا كلل أو ملل.
قال حمدي في أحد حواراته: «بيتي مفتوح للجميع، هكذا تعودت، وليس غريباً على الإنسان أن يفتح بيته للآخرين». الخجل كان أيضاً السبب في ضياع كثير من حقوقه المادية، إذا كان يفضل الصمت دائماً على المطالبة بحقه، وعندما كان يستحثه أحدهم كان يرفض حتى لو كان في أشد الحاجة إلى هذا المال، والأمثلة على ذلك كثيرة كما أكد شقيقه د. مرسي سعد الدين، وأبرزها ما حدث في سنوات غربته اللاإرادية، حيث لحّن أكثر من أغنية لمطربة ربطتهما الصداقة يوماً (رفض ذكر اسمها) وسجّلت فعلاً هذه الأغنيات وطرحتها في الأسواق من دون أن تعطي حمدي مستحقاته المادية على رغم إدراكها حجم احتياجه للمال وهو خارج حدود وطنه قهراً لا اختياراً، وعندما اقترح عليه البعض أن يتخذ ضدها الإجراءات القانونية رفض!
قد يصف البعض ذلك بأنه نوع من السلبية في المطالبة بالحقوق، إلا أن من يعرفون حمدي جيداً يؤكدون أنه كان ضعيفاً جداً أمام أصدقائه، والمال كان آخر ما يشغله ويقيم له حساباً، سواء في ما يتعلق بالزمن، أو في علاقته بالبشر، فما أكثر الأموال التي ارتزق بها في حياته وبددها وكان للأصدقاء نصيب الأسد فيها، وفقاً لكلام
د. مرسي أيضاً.
عُرف عن حمدي أيضاً الإسراف الشديد، لذا لم يطالب صديقته المطربة بمستحقاته تاركاً لما حدث أن يضع الكلمة الأخيرة في علاقتهما...
تخونوه وعمره ما خانكم ولا اشتكــــــــى منكم
تبيعوه وعمره ما باعكم ولا انشغــــــــل عنكم
قلبي ليه تخونوه.
وجه آخر من وجوه «الخجل» أضاع من حمدي فرصة التعاون مع أحب صوت على وجدانه، ليلى مراد التي كان وظل يعشقها حتى آخر يوم في عمره. كان يرى أنها أعظم وأرق صوت عرفته مصر، وأهم مطربة مرت بشريط السينما. قال عنها: «ليلى مراد كانت حلماً بالنسبة إلي وأنا شاب صغير، كنت مفتوناً بها، وعندما أشاهدها في السينما كنت أجلس مذهولاً، أحفظ أغنياتها عن ظهر قلب، هي جزء أساسي من تاريخ الغناء العربي، ما حصلش إن حد غنى بالعظمة دي والوعي ده».
الغريب أن كل هذا العشق لم يترجم إلى عمل، والمرة الوحيدة التي دخل المشروع حيز التنفيذ تسبب عبد الحليم في إفساده. روى حمدي تلك الواقعة قائلاً: «لم تكن أغنية «تخونوه» مكتوبة أصلاً لعبد الحليم، فقد عرضها مؤلفها إسماعيل الحبروك على ليلى مراد وكانت قد اعتزلت الغناء حينها أو بتعبير أدق دخلت دائرة العزلة الإرادية، فطلبت أن تسمع اللحن وفعلاً أعجبها وأبدت حماسة لتقديمه وإهدائه إلى الإذاعة، فبدأنا البروفات، حتى فوجئت يوماً بعبد الحليم يطلب رؤيتي في مكتب المنتج رمسيس نجيب، وعندما ذهبت إليه فوجئت بوجود إسماعيل هناك، وعرفت أنه أسمعهم كلمات الأغنية، وبعد إلحاح من حليم أسمعته لحنها فصمم أن تكون من نصيبه، لكنني رفضت فأصر وظل الأمر على هذا النحو حتى فوجئت به يتصل بها ويطلب منها أن تخبرني بموافقتها شخصياً، وعبثاً حاولت أن أشرح لها الموقف، لكنها لم تمنحني الفرصة وحسمت موقفها بأن يكون اللحن من نصيب حليم، ليكون أول تعاون بيني وبينه على رغم صداقتنا المبكرة».
هكذا أفسد الخجل مجدداً مشروع العمر كما وصفه بليغ، لم يستطع إغضاب حليم فأسمعه اللحن، ولم يتمكن من الدفاع عنه لصالح ليلى مراد فضاعت الفرصة التي للأسف لم تتكرر، ليظل يعيش طويلاً وداخله «عقدة الذنب» تجاه هذا الصوت الذي طالما داعب وجدانه.
وعلى رغم أن ليلى مراد لم تغضب من حمدي وكما أخبرته لاحقاً، إلا أنه لم يسامح نفسه أبداً، خصوصاً أنه الوحيد الذي أقنعها بالخروج من عزلتها كما جاء على لسان ابن شقيقه هيثم حمدي في حواره مع أيمن الحكيم ضمن كتابه عن سيرة حمدي، إذ أقنعها بالظهور على شاشة التلفزيون ضمن برنامج «جديد في جديد» الذي كان يقدمه تلفزيون أبو ظبي، وعندما أعربت عن رغبتها في عدم إذاعة الحلقة استجاب حمدي لطلبها فوراً ومن دون تردد...
جانا الهوى جانا ..
ورمانا الهوى رمانا
ورمشه الأسمراني .. شبكنا بالهوى
آه ما رمانا الهوى ونعسنا ..
واللي شبكنا يخلصنا
كان يتأمل الموج وهو يختلط بالرمال، لم يفهم لماذا تفجر الآن هذا البركان داخله، من فتح بوابة الذكريات؟ لم يكن جمالها مبهراً، لكن روحها كانت خرافية، معها كان مهيئاً للعشق، لأن يلغي ماضيه، يتجرد أمامها من أسلحته كطفل حافي القدمين يمارس طفولته بكل ما فيها من براءة وحرارة وصدق...
مجدداً اشتعلت روما بالحرائق، ولم يعد مجدياً انتزاع سهم كيوبيد المستقر بأمان في قلبيهما. هي «إش إش» ابنة الموسيقار محمد عبد الوهاب... نجح حمدي في تجاوز مرحلة الخجل واستسلم تماماً لسلطة الحب، وهي أيضاً، ومرت الأيام وهي تخطف في ذيلها الأسابيع والأشهر، فيما الشوق والحب يشتعلان يوما تلو آخر...
يا حبيبي... يالله نعيش في عيون الليل
ونقول للشمس تعالي تعالي...
بعد سنة... مش قبل سنة
دي ليلة حب حلوه بألف ليلة وليلة
بكل العمر... هو العمر إيه غير ليلة زي الليلة
غير أن حاجز الخجل الذي توهم حمدي أنه نجح في عبوره إلى مساحات أكثر رحابة من العشق كان في ما يبدو تجاوزاً مرحلياً، إذ عاد ليتعلثم خجلاً وصولاً إلى الصمت الرهيب في الجلسة التي تم ترتيبها مع عبد الوهاب ليتقدم حمدي فيها رسمياً لخطبة ابنته وكان بصحبته وجدي الحكيم.
الطريف أن حمدي أدار حواراً طويلاً في الموسيقى وموضوعات أخرى كثيرة من دون أن يدخل في الموضوع الرئيس الذي جاء لأجله، لتنتهي الجلسة من دون أن يفاتحه أو على حد توصيف الحكيم لم يستطع، ليس تهرباً، لكن خجلا على رغم أن ظروفه المادية آنذاك كانت ميسرة، ما يعني أن طلبه لن يتم رفضه، يضاف إلى ذلك أن موسيقار الأجيال كان يدرك تماماً مقدار تعلق ابنته بحمدي، ناهيك عن اعتزازه وتقديره هو شخصياً له. باختصار، الأمور كافة كانت مهيأة لمد جسور التواصل، لكن فجأة صمت بليغ ليكتب بذلك كلمة النهاية.
أسدل حمدي الستار على أروع حريق يشتعل فينا تاركاً النار تأكله على مهل، فما في داخله من مشاعر ظلت تتأجج فترة طويلة، وسواء كان متعمداً أو دون إرادته فلن يتغير من الأمر شيء فلا مجال لمطاردة السراب، فما هو «كائن» قد «كان»، و{كان» يذهب دوماً مع الرياح.
المؤكد أنه عاد إلى فن الصمت، نجح فى ضبط إيقاع وجه خشية أن تتلعثم قسماته فتبوح عيونه بما يكمن داخله، فما قيمة الحوار أو الكلمات...
فات المعاد وبقينا بعاد بعاد
والنار... النار بقت دخان ورماد
تفيد بإيـه يا ندم وتعمل إيه يا عذاب
طالت ليالي الألم وأتفرقو الأحباب
وكفايه بأه تعذيب وشقا
ودموع في فراق ودموع في لقى
فات المعاد فات فات المعاد
هل ما حدث أفسد العلاقة بين عبد الوهاب وبليغ؟ ولماذا إذن عدل عبد الوهاب عن رأيه في إبداعاته، فاتهمه بأنه «رخص الغناء المصري» بعدما كان شديد الحماسة لموهبته ويراه أكثر موسيقار يأتي إليه الإلهام الموسيقي حينما صرح قائلاً: «ألحان بليغ تأتي في أيام ونحن ننتهي من أعمالنا في أشهر».
هل صحيح أن عبد الوهاب كان له دخل في مأساة حمدي التي دفعته إلى الارتماء خارج حدود وطنه سنوات، وفقاً للشائعات التي انطلقت حينها؟
في حوار د. مرسي سعد الدين لجريدة «المصري اليوم» اعترف بغيرة فنية يراها المبرر الوحيد لمثل هذه التصريحات. قال: «مما لا شك فيه أن الموسيقار عبد الوهاب كان يغار من أعمال بليغ، بدليل أن عبد الوهاب لحّن لأم كلثوم بعد أن لحن لها حمدي».
وفي موضع آخر من الحوار أكد د. مرسي أن عبد الوهاب هو الذي رفض طلب حمدي في الاقتران بابنته، نافياً توصيفها بالمناورة للتقرب فنياً من عبد الوهاب، مؤكداً على ما ربط بين شقيقه وابنة عبد الوهاب من مشاعر انتهت برفض الأب. وبغض النظر عن أيهما أصدق في روايته د. مرسي، أم الحكيم، فلن يتغير من الأمر شيء، المؤكد أو الثابت أن تحولاً حدث في تقييم حمدي فنياً من وجهة نظر عبد الوهاب سواء كان ذلك بسبب غيرة فنية أو لموقف شخصي. أما اتهامه بأنه أدى الدور الأكبر في إدانة حمدي لإبعاده عن منافسته وفقاً لما كان يدور في الكواليس آنذاك فهو ما نفاه الناقد طارق الشناوي، مشيراً إلى أن الجمهور كان مهيئاً للتصديق...
أما عن هذا التحول، ففسره الشناوي قائلاً: «بليغ هو أكثر ملحن عرفته مصر والعالم العربي، وما قدمه حمدي يتجاوز في العدد خمسة أضعاف، على أقل تقدير، ما قدمه عبد الوهاب على رغم أنه عاش مبدعاً أكثر من 70 عاماً، بينما لم تتجاوز سنوات إبداع حمدي 40 عاماً».
أيضا كان حمدي، من وجهة نظر عبد الوهاب، لا يجتهد كثيراً في التعايش مع الجملة الموسيقية التي تمنحها له السماء، فلا يعيد التفكير فيها ولا يترك لها الفرصة كي تختمر «إبداعياً» في أعماقه، بل يقدمها للجمهور مباشرة.
هل هذه الأسباب هي الوحيدة وراء هذا التحول؟ المؤكد أن عبد الوهاب أزعجه بشده آراء عدد كبير من الخبراء الذين راحوا جميعاً يؤكدون أن بليغ هو الوحيد الذي أدخل تطويراً حقيقياً على الموسيقى الشرقية بعد خالد الذكر سيد درويش، ما يلغي تماماً دور عبد الوهاب في أية إسهامات.
يقول د. مرسي : «لا أنسى هذا الرأي الذي أطلقه بحماسة وصراحة الموسيقار محمد نوح في الاحتفاء بذكرى بليغ الأولى، وعندما راجعته في رأيه وكيف تناسى عبد الوهاب، قال: «بليغ أدخل حاجات شرقية أصيلة في الموسيقى العربية، أما عبد الوهاب فأدخل حاجات غربية».
في الحكي تختلط الروايات حتى لا نكاد نعرف «الحقيقة الناصعة». المؤكد الآخير أن هناك ألف سبب للضغينة ولا عذر للمحبة!
• في الحلقة المقبلة نواصل الإبحار في أوراق «الموعود بالعذاب»... «أعز الناس».
المصدر صوت العراق